وهكذا.. كانت من نصيبي

 


رأيت أثرها الهلالي على الأرض، فهرولت مبتعداً، متذكراً
تحذير رائد عمليات الكتيبة، قبل يوم واحد من  توزيعنا على نقاط المراقبة الجوية بالنظر: إن
رأيتم أثرها الهلالي على الرمال، فهرولوا مبتعدين، فإن علاج لدغتها البتر الفوري.

تحذير آخر قاله الرائد بخصوص تسلل أي غريب لنقطة
المراقبة، فالنتيجة ذبح كل أفراد النقطة، وسرقة السلاح ومعدات المراقبة.

أما عن التحذير الثالث، فكان عن كيفية التصرف حين نشوب حرب،
أو مناورة تدريبية، إذ يجب حمل الستة بنادق والرشاش، وجهازي اللاسلكي، والبطارية
الشمسية، والمعلبات، وصندوق الرصاص، وصندوق القنابل اليدوية، ثم الإنضمام لأقرب
تشكيل قتالي، أو أخذ ساتر أثناء المناورة.

أذكر حين انصرف رائد عمليات الكتيبة، تاركاً تحذيراته الثلاثة
من خلفه، نلوكها في حلوقنا وأفئدتنا، أن وجدت نفسي، كما لو أنني طفل شاخ قبل
الميلاد، أو رجُل داهمه النسيان،
دون أن يتمكن من النظر البسيط على محيط من الذكريات خلفه،
مهاجراً حياة الدعة والسكينة، إلى حياة تشبه حياة الحيوان في الغابة، حين يعيش على
قدراته وغرائزه، يستخدمها في الدفاع عن نفسه، وفي الحصول على غذائه. وفي طريقنا للمبيت
بطرف الساحة الرملية الرئيسية للكتيبة. أني قلت لنفسي (ماذا بعد؟. وما هو القادم؟).
وفي المبيت. أخذنا نتمدد بأجسادنا المنهكة على آسرتنا المعدنية بفرشاتها الخشنة، والقلق
على وجوهنا له ملمس ولزوجة، والصمت مُثقل برائحة الرمال، في الوقت الذي ذهب فيه العريف
“”محمود علم الدين” ليملأ فنطاس عربة المياه من محطة تحلية المياه
البعيدة نسبياً عن الكتيبة بخمسة كيلو مترات تقريباً، وبعدها. ما لبث الظلام أن حل
كلص غريب ثقيل الوطأة، لا أرغبه في هذا الخلاء الموحش من الصحراء، سالكاً ممرات وعرة
إلى روحي. وعبر شروخ جانبية للنافذة الزجاجية المغبرة للمبيت، تناهى إلى سمعي صوت موتور
عربة المياه، وهو يئن ويبتعدً حتى تلاشى.

كانت وجبة
العشاء، لا تختلف في نوعها وكميتها عن وجبة الفطور، لكل جندي (بيضة مسلوقة، ومكعب جبن
مثلثات، ومكعب مربة برتقال، ورغيف خبز أسمر قديد بارد). وبعد عودتنا من أمام
المطبخ، وتخطينا عتبة المبيت، همست بصوت متواطئ لزميلي من خلفي (أغلق الباب).

كنت أُريد أن
يفصلنا الباب عن خلاء ساحة الكتيبة الموحش المسكون بالعفاريت، وسط صفير الريح البادي
كنواح الأرامل
، مما حدا بي منذ لحظات، أن اكتفي بتفريغ مثانتي على جانب من جدار المبيت، والعودة
من الخارج بضربات قلب متسارعة.

كان بالمبيت جركل بلاستيك مملوء بمياه شرب نظيفة.
ولآن الباب كان به ثقوب عديدة، فقد رحنا نفتش تحت أسرة المبيت المعدنية عن أي زائر
بغيض، لا نرغبه بيننا، فمن ذا يمكنه النوم، وهو يتوجس خيفة من لدغة حية، أو ثعبان،
أو عقرب؟. وبعد التأكد من خلو أرضية المكان من تلك الكائنات البغيضة، رحنا نبيت
ليلتنا بدون إطفاء لمبة المبيت الكهربائية، ولماذا نفعل، والنوم لن يداعب جفوننا
من القلق والترقب، ففي الغد الرحيل إلى نقاط المراقبة، ولا نريد، والحالة هذه، أن نتواطأ
مع أنفسنا وضدها في آن، فندعي الشجاعه، في الوقت الذي يعتورنا الخوف من المجهول لا
غيره. ومن أجل هذا، لم أهتم في أخر الليل بفاصل إضاءة فوانيس العربات الثلاثة
للكتيبة، وهم عربة المياه، وعربة الجيب، وعربة نقل الجنود، ولا أحد هناك، وكأن عفاريت
ساحة الكتيبة، يعز عليها أن نغادر دون إقامة حفل توديع لنا. وفي نومي القلق بعيون نصف
مغمضة كعيون الذئاب، خالني أني سائر داخل غابة كثيفة الأشجار، لا أول لها ولا آخر،
تتسرب من خلالها خيوط ضوء رمادي باهت، والذئاب والأسود والنمور والضباع نائمة تحت جذوع
الأشجار تتثاءب في ملل، غير عابئة بخطواتي المرتعشة الحمقاء التي تلمس بعض أقدامها،
وتدوس في بطونها، فلا يصدر عنها أكثر من زأرة، أو هبة على سبيل المزاح. وكان يبدو أنني
أعرف كل هذه الوحوش معرفة وثيقة، وأنها هى الأخرى تعرفني حق المعرفة، وأن بينها وبيني
وداً قديماً، وأنا أنفذ من أشجار مضيئة رطبة، إلى أشجار مظلمة أكثر رطوبة، حتى امتد
فجأة الخلاء أمامي عارياً من كل شئ، والشمس تميل برأسها الذبيح على كتف السِّحاب، تنضح
فوقه دماً، فشعرت ببرودة ثقيلة تسري تحت جسدي شيئاً فشيئاً، ثم بدأ المطر ينهمر، وثمة
حركات عابثة، لعلها مخالب بعض وحوش الغابة التي تمشي خلفي، وتصير تنهش جسدي المتيبس،
وتتقافز على جلدي، ويلامس عنكبوت صغير وجهي، فأحاول النهوض، فإذا بي بين اليقظة
والنوم، والضوء العفاريتي يتسسل من النافذة، فأدير له ظهري، وكأن شيئاً لم يحدث.  وفي الصباح. صارت لنا ضوضاء، تعلو على صوت موتور
عربة الفنطاس، ومن مكاني بجوار العربة، تحسست رقبتي، فوجدتها لا زالت في مكانها،
وأنا أنظر إلى الضابط احتياط “”خميس” عبد الواحد”، يقف أمام غرفته
الواطئة على جانب من الساحة، وهو يعطي ظهره لنا، وقد لاح لي صدره المجوف، والظهر
محدودب قليلاً، والمنكبين بارزين، ولوحي الكتفين الناتئين من تحت سترته الميري المهلهلة،
وعنقه الطويل، وقامته النحيفة جداً، وساقاه الرقيقتان الطويلتان كساقي الكركي، فتصورت
تلك القامة رقيقة إلى حد أثار دهشتي، حتى كادت تكون لصبي يافع.

إلتفت الضابط “خميس” نحونا، بمحياه الذاوي المكسو بالغضون، ولا أعلم
لماذا هذه المرة تغير انطباعي عنه، إذ فكرت بأنه شاب، وقد أخذ منه المكان المنعزل
المقفر ما أخذ. وفي الواقع. وأنا واثق من ذلك تماما، فهو يبدو في نحو السابعة والعشرين
من عمره، وحين تفدم هذا الضابط منا، بدا كمن يحاول أن يرقص رقصة غير بارعة، والسبب
هذا العرج الخفيف في مشيه، والذي يبدو كعرج الضباع، ثم أشار إلى العربة، فأخذنا
نعتلي الممر المجاور لفنطاس المياه، وعلى مقعد بجوار العريف “”محمود””
سائق عربة التعيينات تلك، جلس الضابط “خميس” بأنفة بادية. وبعد قليل. دار
موتور العربة، فزمجرت، وأخذت تثب وتتراجع، ثم لفظت وراءها عدة دفعات من الدخان، وبعدها
غادرت المكان ببطء موكب جنازة، ثم انحرفت يساراً، واعتلت الطريق الأسفلتي غير المطروق،
وبعد عدة دقائق، برز على جانب مبنيين حجريين، كل مبنى من دورين، وهما مخصصين لقادة
الكتيبة، الأعلى رتبة، وعلى سطح أحد المبنيين، بدا علم مصر بألوانه الأحمر والأبيض
والأسود، يرفرف بشدة، وبعد مسافة قصيرة، رفعت بصري إلى نور باهت بلا ضفاف، ورمال لا
يحدها بصر، ورغم علمي بأن صحراء “سيناء” متاهة، غير أنني كنت قد عولت عليها
منذ زمن، أن تكون من نصيبي.

من أجواء روايتي القادمة (نقطه 14 مراقبة)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top