أجنحة مكسورة

 


أجنحة مكسورة

 

إختقت معالم البيوت، تكورت اعواد النخيل،
إختلطت ملامح الخلق بعد أن بهتت الرؤية في عيني الحاج “مسعود” الذابلتين
من أيام الشِّشم، وقيالة الشمس التي كانت تشوي بصهدها كل أنحاء الكفر من أول
الساقية القبلية حتى أخر حوش النخيل.

لم يك الحاج “مسعود” يعرف سر تلك
البنايات التي ارتفعت كزرع شيطاني على قلب الكفر، ظل شهوراً لا يدري ما يدور في
بطن الكفر حتى قادته قدماه ذات ليلة إلى السهراية المهجورة غرب الكفر، فوجد
“أبو الحمد” يضرب كفاً بكف، وهو يلتوي في غضب ويهذي ويمزق الخلاء بصراخه
“لقد ضاع الكفر، ضاع والله يا حاج مسعود، ولم يعد ينقص إلا أن تقرأ على روحه
الفاتحة، وأهلاً بك يا زمن طوابير العيش، والتسكع في الطرقات، والرقص على ضجيج
الأغاني، والموت خنقاً تحت الزحام، ألا يكفي يارب ما أصابنا من لعنة السهر طول
الليل، والنوم حتى الظهر من أجل دعارة التليفزيون والإنترنت والدش التي هتكت
الحياء، وبورت الأرض وخربت الصحة”.

ينغرز كلام “أبو الحمد” في وجه الحاج الممتعض، وهو يحكي عن سقوط
غيط “وردان” تحت وطأة الأموال الوافدة من بلاد الله الواسعة، وأنواء
الخراب المستعجل الذي اقتلع جذوره، وطمره حياًً تحت تِلال الرمال وأكداس الطوب
والأسمنت.

يتصعب الحاج “مسعود”، يهرش في عينيه، يمضي في تخبط نحو بيته على
تراب الغيطان المبقورة الأحشاء، وهو يغمغم ويدمدم، يصيبه التعب، يرتمي لاهثاً عند
أطلال الساقية القبلية التي أصبحت مجرد أشلاء خشبية منخورة، تتناثر بقاع بئرها
الراكد، يتراخىَ على صدر الظلمة، يتنفس كطفل يحتضر، يحس بالهواء حوله بارداً برودة
القبر، يمضي، يكاد يتعثر في أفواه الحفر وأكوام القمامة التي ملأت ساحة النخيل
التي عاشت أعماراً، تلم مخاليق الكفر، وهى تستقبل طراوة العصاري في مواسم القيظ،
وتفرش لمسات الدفء حين كانت مخالب الصقيع تنهش الأبدان، وتثقب العظام.

يندس العجوز في عتمة الخلاء وحيداً، بأثقال سنواته الثمانين، تتسلل إلى
أنفه الروائح الفجة الرطبة التي يعرفها منذ تفتحت عيناه، ودغدغت جسده لسعات شمس
الكفر، وهى تتقلب ناراً على امتداد الساحات الخضراء، وفوق الوجوه والظهور والدواب
وأشواك العيش المرير.

يهبط بأقدامه الثقيلة نحو الكفر، يصطدم بكلب “عبود” الحلاق العجوز
وهو يتمدد وسط الطريق، بينما كان يقبع على حائط مهدم غراب اسود، وعلى صدى نباح
الكلب الممزق ينشر الغراب جناحيه، ينفض جسمه، وبخفة جامحة من جناحيه يترك نفسه
للهواء يقوده إلى جوف الظلمات المتراكمة.

يتشبث الحاج بذاكرته الواهنة وهى تمضي للوراء، يغوص بخياله المشقق في ركام
سنوات عمره وهى تتمطى وتتمايل فوق الدروب والحقول والساحات، وتنزلق كنورج يعلو
ويهبط ويئن فوق أشواك الحر وسراديب الصقيع وسيول القلق والإعياء، لا يتذكر أنه
تحدث يوماً عن شئ غير الكيماوي والري ووابور الطحين وأحوال الدودة وأصناف البذور
وحكايات لصوص الجبل حين يتسللون إلى الكفر عند غياب القمر لنقب الحيطان، وجر
الماشية وخطف العيال وإطلاق النيران.

يتأوه العجوز، يمد ساقيه أمام الدار، يسحب أنظاره الكسيحة إلى شواهد
الأعمدة الخرسانية السوداء وهى تنغرز في صدر الخلاء، في جوف عواصف التراب الصاعد
الذي يصبغ الوجوه والنخيل والبيوت، ويحيل الكفر إلى مهاوي تطفح بالقطران، يتمدد
خياله، يرتطم بأيام الغد وهى تزحف نحوه كإعصار، ينظر للسماء، يتنهد في آلم، يتخيل
القمر دائرة سوداء بعد أن تمزقت خيوطه على قمم البنايات العالية، واندثرت في زحام
الأضواء المتدفقة في طيش، الغرباء يهجمون من داخل الأزقة الضيقة الجديدة في صخب
وتصادم واحتكاك، البيوت تتشابه، النوافذ تلتصق، الأحذية ترتطم، احذية ملطخة، أحذية
مرتقة، أحذية تبرق، وكلها تنخر في صدر الكفر ثقوباً عميقة.

ينطرح الحاج امام داره كطبخة باردة تلتصق بقاع وعاء علاه الصدأ، كومة من
العظام المتكسرة والزيت الجاف.

 يبزغ الصباح، يتأمل الحاج “مسعود” في
حسرة حركة الغرباء حوله، أشخاص يقبلون، آخرون يلتفون ويهمسون، كلهم يبصقون نظرات
استهجان على داره القديمة، وجسده الضامر، وعصاه المشققة، يفرش خرقة قديمة على
المصطبة الطينية، يسند ظهره على الحائط، ويتمدده باسترخاء على قارعة الطريق، يضيع
وقته بهش الذباب وتقطيع كرات الأطفال، ومع الوقت لم يعد أحد يلقي نحوه بالسلام،
ويسأله عن الصحة والأحوال، يسند راسه الثقيل على الحائط، يتنفس ضيقاً، يغمض عينيه،
يطارد كوابيساً تقتحمه، تثقب رأسه، تلقي أشعة الشمس وهجاً على وجه مغبر شوهت
الإنفعالات ملامحه، يخترق سمعه صوت سيارة يقبل نحوه، يلتفت حوله، يقف أمامه حذاء
يلمع، وصوت رفيع ينقر أذنيه في حدة “أهلاً يا جدو”.

يفتح العجوز عينيه الضيقتين، يطلق أنفاساً محتبسة، يقهقه، يكشف عن فم هجرته
الأسنان منذ سنوات بعيدة، يتأمل وجه حفيده وهو يتآلق بضحكات الفرح، يتسلل إلى
داخله شعور مريح مفعم بالبهجة، يتمتم في سره “جدو” وكأنه يجربها على
لسانه، يخاطبه الحفيد وهو يسحب العصا المشقق “لم تجلس في الشارع هكذا يا جدو،
أليس ذلك عيباً؟”.

ترتفع ضحكات الحاج، لتطقطق صدره بفرح مشروخ “إنني يا كبدي أقبم هنا
وحدي، لهذا أفعل دائماً ما أشاء”.

ورغم أن صلة القرابة لم تعد لها معنى في هذا الزمن الأغبر الغريب، فإنه أحس
بنشوة عارمة وهو يسحب حفيده إلى داخل الدار، بينما راح ولده الكبير صاحب الحذاء
اللامع والكبرياء المنتفخ يركن عربته عند ظل شجيرات قريبة.

يمضي الصغير نحو الداخل في سعادة، ضحكاته العابثة تنبعث كبرق من الفرح في
أركان الدار المظلمة الخاوية، يستقر فوق سجادة تسلخت خيوطها بفعل مخالب الزمن، يده
المعروقة تتعلق بالهواء، تحاول الإمساك بتلابيب الحفيد الصغير وهو يقفز ويركض.
يسقط فجأة صوت الولد الكبير فوق رأسه “أعتقد انه لابد من البيع يا أبي
الحاج”.

-ما تبقىَ من العمر لا يمكن بيعه، لا أحد يشتريه يا ولدي.

-لم تعد هناك فائدة من
هذا اللغو، إن الوقت قد حان لبيع الدار والغيط بعد أن اقترب الزحف العمراني إلى
هذا الحد.

-من قال لك يا ولدي إن
ما يقترب هو زحف عمراني، إنه الخراب يا سعادة البك من شرق الكفر إلى غربه.

-أبي، بربك. إن لم
تسترح الآن، وبعد أن بلغت الثمانين، فمتى؟. أرجوك لا تضيع الوقت الذي حان.

 يضحك الحاج، يهتز جسده النحيل وهو يحدق في وجه
ولده المتورد الأملس “ها ، ها ، أي وقت تقصد يا ولدي البك؟. إنني لا أعرف من
الوقت إلا حيت تفتح القنوات ويروي الماء غيطي، إلا عندما تسقط أوراق الشجر لتظهر
من جديد نابتة لامعة. الوقت عندي يا أستاذ ليس معقداً كما ترى، إنه لا يزيد عن نثر
البذور والإنتظار حتى يطل الإخضرار، إنه تضخم بطون لتلد وتضع وتتكاثر، إنه دورات
كبيرة بطيئة من الحرث والحر والري والبرد والحصاد، شىء بلا حدود دائماً يأتي، لكنه
أبداً لا يتكرر”.

-من الغريب أن الإقبال على شراء الأراضي في الكفر صار كاسحاً، وأنت ما زلت
تضيع وقتك في اللهو بالكلام، إنك لو ظللت على هذا الحال، فلن تجد عند غيطك في
النهاية إلا قمامة السكان الجدد.

يومئ الحاج في آسى، يرن في خاطره ضجيج الغرباء وصخبهم وهم يشققون الأبواب
الخشبية العتيقة، ويقتلعون أبواب النخيل، ويسحقون النبت الأخضر. راقبهم ذات يوم
وهو يدفع المحراث، كانوا يندفعون في جنون بين العربات التي تئن تحت أثقال أسياخ
الحديد وأكوام الرمال وأكياس الأسمنت، يومها حين شعر بالبقرة تتوانى بسبب هدير
الأصوات، صرخ فيها بكل قواه، يحثها في حزم على جر المحراث، وعاد يطلق الضحكات
الساخرة الداوية.

يرتعش وجه البك، يهمس في غضب مكبوت “يبدو يا أبي أنك لست هنا”.

يضم العجوز حفيده حين يقترب منه، يربت ظهره، يمسح بيده الخشنة خصلات شعره
وهو يغمغم بصوت كالهمس “لصوص الماشية الذين كانوا زمان يأتون من بطن الجبل
وهم يحتمون بالظلام عند غياب القمر لنقب الحوائط واطلاق النيران وسرقة الماشية
وخطف الأطفال، عادوا، عادوا، وفي وضح النهار ليسرقوا الكفر بكل ناسه وأرضه
وماشيته”.

يسكت الحاج، ولكنه فجأة يقوم في غضب، يسحب حفيده نحو الخارج بخطواته
العاجزة المتثاقلة، وعند غيطه المَحروث يجلس عند أقدام الصغير، يدس إصبعاً بدت
عليه أثار جرح قديم في ثنايا الأرض المشقوقة الرطبة، يسحب في رقة زهرة نابتة تتدلى
منها جذور رفيعة ملتوية، يحتويها بحنو في راحة يده، يهمس في أذن حفيده الذي تلون
وجهه بالدهشة “سبعون عاماً. سبعون عاماً يا ولدي وأنا أقوم بنفس العمل هنا،
حقاً لا أعرف ماذا ستكون البذرة، لكنني أعرف ماذا سأكون أنا بالنسبة للبذرة”.

يشقق الصمت صوت هدير سيارة، يتبعه نباح كلب، يندفع الحفيد نحو الخلاء في
عدو مضطرب، يرتفع الهدير، تعلو على البعد موجة كثيفة من الغبار، سرعان ما تتقلص
حتى تصير مجرد نقطة تضطرب في الخلاء، السكون يخيم من جديد حول الحاج وهو يجر قدميه
نحو الدار، يتطلع للأفق، يلمع أمامه خلف ضباب البصر ضوء، وحين تتراكم الأضواء.
يبدو له الكفر جثة عارية تتمدد على طول الأزقة وبحيرات المياه الآسنة، وتحت أحذية
الزحام المتلاطم، الآلم يتدفق رملاً حارقاً في عظامه، يسرع إلى داخل داره، يستقر
في آلم على فراشه، يلمح تحت عينيه جحافل من أبقار وحشية تندفع نحوه، تدك سمعه،
يدور في الفضاء حول نفسه، مستعيناً بكل ما تبقى من قوة في جناحيه المتهالكتين، يحس
بنفسه نسراً يندفع فوق الزحام الخانق والأعمدة الخرسانية وصراخ الغرباء، يمد عنقه
كنصل سيف، يقترب في طيرانه المرتجف من داره الخاوية، يحدق نحو الأرض، يصرخ في
البقاع “يا الله. كيف اقتربوا من داري إلى هذا الحد؟”.

بعد مؤامرة ليست دنيئة من الجزارين. باع جاموسته بنصف الثمن، لتذبح بعد
جنون الأسعار، لتباع على أنها لحم عجالي، ثم باع منجله، وبعد ذلك. معاش الضمان هو
الحل. يضغ بطاقته الورقية والختم بمنديله القديم. يتجه للضمان، تمر الشهور، يفاجأ
بالموظف يأمره باستخراج بطاقة كمبيوتر، وإلا لن يقبض المعاش بعد هذا الشهر،
بالطريق يسأل كل من قابله، وثمانون عاماً محملة على أكتافه النحيلة، بالكاد يجر
جسده المثقل بخطوط مرسومة على الوجه الذي بدأ يتلاشى ليخوض أول وأخر حرب
الكترونية.

بطاقة كمبيوتر؟. من أين له شهادة ميلاد، والدفاتر عبث بها اللصوص والمرتشون
والفئران؟. ثلاثة شهور يناضل، يضع جسده بوسط الصفوف، صراخ النساء اللائي فشلن
ومعاش الضمان موقوف، والإعاشة على المنحة الخارجية.

إنتحى الحاج “مسعود” جانباً، بكى دون صوت، لماذا لم يمت كأفراد
جيله ببطاقته الورقية؟.

يتضامن معه موظف الضرائب، يملأ استمارة شهادة الميلاد “تسافر
للقاهرة”.

تحدث المعجزة، الشهادة ليست بها أي أخطاء إملائية، أو رقمية، ينسل ناحية
السجل المدني الضيق المكتظ بكل صنوف البشر، الضوء الهزيل، رائحة العرق، ودموع
تتلآلآ تأبى النزول.

تداخل الأصوات والأجساد، آخر النهار الفشل نصيب الجميع، غداً يوم جديد،
يشتري استمارة بطاقة كمبيوتر، لم يتعب الكاتب، أول من يدخل السجل ليمسك الأسياخ
الحديدية، يسلم استمارته، يأمره الموظف بالدخول، هو لا يعرف الإبتسامة، بمنتهى
الوجوم يأمره الموظف بالنظر إلى عدسة الكومبيوتر، يخلع عن رأسه غطاء الرأس البالي،
يضحك الشباب على رأسه الصغير الخالي من الشعر، الحاج “مسعود” المثقل لا
يمل كل صباح على الشباك، يسلم الإيصال، يسترده.

مؤامره أم قدر؟. بعد عام يسلم الإيصال، يستلم بطاقة الكومبيوتر، ومع الفرحة
وزحمة البشر تقع البطاقة يغوص وراءها، تدوسه الأقدام، يرتطم بحقل محروث، لم يحس به
أحد إلا بعد انتهاء العمل، وجدوه يمد يده والبطاقة على بعد متر.

والصوره له تبتسم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top