ثقب في الجدار الأسود
نفنج بوابة النهار، يبدو على وجه الحائط ظل مظاهرة قادمة، إمرأة في الشارع
تجرجر واهنة طفلتها.
ترمي المرأة للعمارات حولها دموعاً، قلباً ثقيلاً، تبكي في السر دماً، تزرع
لابنتها في ذيل المظاهرة ثوباً، كوب لبن “نامي يا ابنتي. نامي واقفة إن أردت.
ستسير بك المظاهرة يوماً ما إلى حدائق للخبز. نامي يا صغيرتي، نامي”.
وتحلم المرأة باكية برغيف تشطره نصفين، تعطي الأول لابنتها، وتدخر الباقي
لوقت الشدة، تقول للمرأة التي تنظر بعجب من نافذة سيارتها الفارهة إلى المظاهرة
“هل ترغبين في خادمة يا ست هانم، تطبخ، تكنس، تعجن، تصلح الصنابير، تسلك
البالوعات، ترتب الحجرات، تلاعب الأطفال، ولا تنام، لا تنام أبداً، هل ترغبين في
خادمة تقوم بكل الأعباء مقابل خبز لابنتها، وبعض الستر؟”.
طفلة في كف الحزن، تنفتح أشداق الدروب وتبلعها، تعبت من المشي، من النظرات
المنكسرة، من ربات البيوت المتحجرات، من الأرغفة المعلقة في الحلم، الحمائم التي
ترف بعيداً، ولا تدنو أبداً.
“أنا خائفة يا أمي، أرتعش من
البرد، أخاف من الليل”.
تنتفض الطفلة، تهش عن ذراعها ناموسة، لا تكف عن الطنين، مص الدم، إمرأة
وابنتها تعودان في الليل مهدودتين جائعتين، نقطتان من صمغ في لوحة النهار، تتحللان
الآن في حامض التعب والنوم. فجأة. يقتحم الرجل الأنيق خلوة المرأة، يبرقع وجهها
بالدهشة والوجل.
-توقفي.
-لم يا أخي وأنا إمرأة
متعَبة، وعلى كتفي إبنة يقضمها الجوع، ونحن الآن عائدتان.
المساء يلملم نفاية المظاهره في صندوقه الداكن، بقايا النهار تتوزع
كالفئران في الجحور المنسية.
الرجل الضخم الكريه يضحك وهو يلكزها “كل ما تحتاجينه حمام يعري فتنتك،
وذراعا رجل فحل مثلي”.
شيطان الشهوة يربض متحفزاً في عينيه، والرجفة في صدرها أرنب مذعور.
-هل هذا هو الغول يا
أمي؟. إني خائفة منه.
-لا تخافي يا ابنتي،
لقد قالوا لي نفس الكلام وكنت أكثر حسناً “أبعد عن طريقنا أيها الرجل”.
إمرأة وابنتها ودم المساء، معلقتان في النظرات الجوعىَ، خنزير يلبس ثوباً
مكوياً وحذاء يلمع، ويهمس في فحيح “إختاري بين أن أكون عشيقك أو جلادك”.
يضحك الرجل للوعتها واصفرار وجهها، والنسيم الذي يبكي داخل الصقيع.
-من ينقذني منك؟. لو
كان زوجي حياً ما تجرأت أيها الخنزير هكذا. ولكن نامي، نامي يا ابنتي، لقد سمعت في
السابق نفس الكلام. وكنت أشهى جسداً، وأجمل وجهاً.
إنغلق الخوف على الطريق، مرت المظاهرة والهتافات المدوية على صمت الأسفلت
المبلل “الشعب يطالب بإسقاط النظام”.
إنسكب على الجسد عرقاً بارداً ورجفة، وقبل أن تنطلق الهانم بسيارتها، تعاود
السؤال “هل ترغبين في خادمة أيتها السيدة الهانم؟. سوف أكون طيعة كتومة صبورة،
صامتة كحمارة.
-لا، لا أريد خادمة،
لديّْ الغسالة الفول أوتوماتيك، المكنسة الكهربائية، غسالة الأطباق، برامج الطبخ،
الخضار الجاهز، البلاط اللامع، أوان تطهي الطعام بالصفارة والأزرار”.
الرجل الفظ الثقيل لا يحس بثقل الليل، بأشواك البرد.
-أمي. أشعر بالبرد،
ببطني عصفور ينهق.
-إرويه بالماء يا
ابنتي، ربما يسكت.
-أين أبي؟. لمَ لمْ
أره أبداً.
-سوف يأت يا حلوة فوق
حماره الضامر، يشق لك دروباً للبن والعسل والسمن، وأشجار تتدلى منها الأرغفة
كالأثداء.
يشد الرجل على ساعدها، يهمس بصوت محموم مكتوم
“تعال”.
تنتفض البنت، تدفن في كم المساء عويلها.
-تنح عن طريقي أيها الخنزير.
يثور كعاصفة، يشهق جحيماً، يلهب المساء، يشنق سيولة الأمان في دمها، من
ينقذها منه، من يدع إبنتها تأمن وتنام؟.
(هل تحسب نفسها ست هانم، إبنة ناس، أقول لها
تعالي فتكشر في وجهي، وتشحن عينيها بالترفع والغضب.).
-هيا، هيا أمامي أيتها المرأة العاهرة.
-لست عاهرة.
-قلت لك هيا معي.
-إلى أين؟.
-إلى قسم الشرطة.
-لم أيها الرجل؟.
-تزعجين أمن الناس.
-أبحث عن لقمة عيش
لابنتي.
-بل تحرضينها على
التسول في الطريق العام.
-كيف، وهى على كتفي
جائعة منذ الصباح؟.
-تجادلينني؟. هيا.
صار المساء مسائين، لحظتين غائرتين في بطن ظلام دامس، طعنتين نافذتين في
لحم الجسد.
ممرات طويلة ضيقة، دهاليز، زمن يحبو وئيداً، ثم يسقط في الفراغ.
-هناك خطأ، سوف
يتداركونه ونخرج يا ابنتي في الصباح، كم من زمن مر خلف الأبواب الموصدة، الأسوار
العالية، الأحذية التي تتطرقع بجنون في الممرات، وعند الحوش والمنحنيات.
-هل هذا بيتنا الجديد يا أمي، إنني خائفة.
-آه يا ابنتي، ما أشد
الظلام ووقع الأحذية وسنابك الصرخات، أنا عاهرة. حظيرة لوحوش الجنس، حرام، حرام
عليكم ما تفعلونه فينا، هناك بالتأكيد خطأ ستدركونه حتماً وتقرون براءتنا، هيا افتحوا
هذه الأبواب السود الصلدة القاسية، إرفعوا أيديكم عن باب حريتنا، إرفعوا أقدامكم
عن رأس ابنتي الصغيرة التي تود أن تمشي وتجري وتقفز.
-إبنتك متهمة بالتسول
في الطريق العام.
-عمرها أربع سنوات
أيها الأسياد، أبوها مات بعد أن طعنته الثورة، واغتاله الإحتجاج، وهى الآن جائعة
متعبة متسخة، يسرح قمل في رأسها وأحشائها، لكنها لا تتسول أبداً، صحيح كانت تتصبب
عرقاً لكثرة ما نلف بين الأزقة والنظرات الدنيئة، وتبكي أحياناً بسبب الجوع، لكنها
لا تتسول، وأنا إمرأة لم تعرف أقسام الشرطة، ولا الدور المشبوهة. أحياناً كنت
أصادف بعض إغراءات، همس، تحريض، حتى أمسح من راسي زوجي الذي مات وهو يتضور ذلاً
وحاجة، وابنتي التي تحتاج ستر الله، والموت أهون عندي من الإنكفاء، ومع هذا. أطلب
منك يا صغيرتي أن تضحكي، أن تضحكي حتى لا نضطر حسب العادة إلى البكاء.
يتأوه باب الزنزانة، كهف الموت يتثاءب، تدق الأحذية في الممرات بعنف، تدق
جدار القلب، لعلهم قد أدركوا الخطأ، فنرى النور في الصباح.
تقترب الأقدام، تهب الطفلة في ذعر، تبحث في جسد الأم عن شئ تختفي فيه، تلوذ
بجوفه، يقترب هدير الأحذية
-ماذا تريدون منا؟.
-جئنا نأخذها.
ترتج المرأة، تزرع إبنتها المذعورة بيد مرتجفة تحت الجلد.
-تأخذون من؟.
-هات البنت أيتها
العاهرة.
تعتصر المراة إبنتها، تنحني للأقدام، تقبل كتل من حديد تدوس جثتها، تنبش في
الأحشاء عن كبد تختطفه، تبكي الهوام، تسود الجدران، تنطفئ عيون النافذة العالية.
-متهمة بالتسول في
الطريق العام، متهمة بتشويه وجه مدينتنا المليح، متهمة بزرع بثور في عيون الضيوف
السياح أصحاب أوراق الدولار والإسترليني والشيكل، تسول ابنتك يرهب الزوار، يمنع عن
الخزانة خيرهم، هل عرفت سبب فقرك وسوء حالك؟.
-لا أعرف.
-السبب هو تسول ابنتك
الذي أفقر البلاد والعباد، وصار جرماً لا يغتفر. لهذا حكَم عليها بالإعدام.
صار يوماً لا إسم له حين هوت زهرة الأيام المقبلة.
توسدت الطفلة ذراع أمها ونامت، رأت أباها كضباب لامع يدخل قلبها، زهرة
لأيامنا المقبلة، ذبحتها المشنقة في صباح فقد نور الشمس.
إمرأة في زنزانة، طفلة في مقبرة، بينهما شارع تم رصفه في ليلة واحدة
بالدموع والقهر والدماء والذعر، حتى صار شارعاً من الآلم والغضب.
راحت تطرق الأبواب باحثة عن أرض تغسلها، جدران تلمعها، مائدة ترفع عنها
بقايا لحم وخمر، صارت تعود كل مساء محبطة، تحقن عينيها بالرجاء، لتبدأ اللهاث
والإعياء والدموع.
-أين أنت يا ابنتي؟. ردي علىّْ.
-أمي لا تقلقي، أنا هنا مع أبي، في غرفة بلا سجان، في بيت للزهور والطيور
والأنوار والأطفال، مع أبي.
تبكي المرأة، تنهش لحمها بأظافرها وتصرخ صرخة تمتد، تمتد، حتى تثقب الجدار
الأسود.