لم يفهم “كريم” لماذا ارتاع “مسعود” حين رأى في يده قلنسوة من القلانس التي يلبسها أهل “التبت” على رءوسهم، فقال له: لماذا ترتاع هكذا يا “مسعود”؟. إنها قلنسوة أعجبني منظرها العجيب، وهى على رأس رجُل من أهل “التبت” ونحن محلقان فوقه، فاختطفتها مازحاً، وقد يطيب لي أن أحتفظ بها تذكاراً لهذه الرحلة في بلاد العجائب!. فقال “مسعود” في فزع: إرمها الآن، إرمها بسرعة قبل أن تحل بنا كارثة!. فرد “كريم” وهو يقول باستغراب: أىُّ كارثة يمكن أن تحل بنا بسبب قلنسوة؟. إن لك أفكاراً غير مفهومة أحياناً يا صديقي!. فرد “مسعود” وقال:إنك لا تعلم أن أهل “التبت” لا يغيرون ملابسهم مرة واحدة مدى الحياة، فقد تظل ثيابهم على أجسادهم خمسين عاماً، أو أكثر، فانظر ماذا يمكن أن يكون في مثل هذه القلنسوة من آلاف الحشرات الضارة والجراثيم المؤذية، التي لا يمكن أن يكون في أجسادنا الناعمة المُترفة مقاومة للأمراض التي تأتي بها، ثم إن هذا النوع من المزاح مع أهل “التبت” خطير العاقبة، وخاصة في هذه المدينة المقدسة التي تشبه في قدسيتها مدينة “مكة” عندنا نحن المسلمين، فقد يسوء ظن القوم بنا، فلا يعتقدون أننا نمزح معهم، بل نسخر منهم، ومن دينهم، ومن مدينتهم المقدسة، فلا يكون جزاؤنا على ذلك إلا الموت!.
واستطرد “مسعود” يقول: واعلم يا “كريم”، أن مدينة “لاسا” المقدسة، التي نوشك أن ندخلها، كان محظوراً دخولها على الأجانب إلى وقت قريب، ولم يزل القوم حتى اليوم يسيئون الظن بكل أجنبي فيها، ومن أجل ذلك، قد تكون ضحكة واحدة نضحكها بلا قصد،. سبباً إلى قتلنا!. فعقب “كريم وقال”: معذرة إليك يا “مسعود”، فإنني لم أكن أعرف!.
واستمر المغامران الصغيران طائرين فوق مناظر مختلفة، متغيرة، فتارة يطيران فوق مرتفعات شاهقة تغطيها الثلوج، وتارة فوق منخفضات تنساب فيها الأنهار صافية الماء، وأحياناً فوق مروج خضراء، قد انتثرت على جوانبها بعض البيوت الصغيرة، ولم يزالا طائرين حتى بدا لهما على بعد بناء شاهق، جدرانه من المرمر، فصاح “مسعود” : ها نحن قد وصلنا إلى “لاسا” المدينة المقدسة في “التبت”، وإن شئت يا صديقي، فسمها مدينة الموت!. فارتعد “كريم” رعدة ظاهرة: وحينئذ قال له “مسعود” باسماً: أترتعد رعدة الخوف، أم رعدة البرد يا “كريم”؟. فأجابه “كريم” وهو لم يزل يرتعد: ما بي خوف!. فقال “مسعود”: ليس من العيب أن يخاف الشجعان في مثل هذا المكان يا صديقي، لقد ظلت هذه المدينة المقدسة قروناً كالسر المغلق، لا يعرف أحداً من الأجانب ماذا وراء جدرانها المرمرية، إذ لم يكن مسموحاً لأحد غير أهل “التبت” أن يدخلها، وقد حاول بعض السياح الأوروبيين أن يدخلوها بالحيلة، فكان جزاؤهم جميعاً الموت، ولم يستطع إلا سائح واحد، هو “إبوليني ديزيدري” أن يدخلها، وكان ذلك منذ سنوات بعيدة جداً، فكان أول أوروبي يدخل هذه المدينة وخرج منها سالماً، ثم لم يستطع أجنبي واحد أن يدخلها بعده، وكل الذين حاولوا الدخول بعده ماتوا!. فقال “كريم” معقباً على كلام “مسعود” الغريب: وكيف استطاع هذا السائح وحده أن يدخلها ويخرج سالماً؟.
-لقد تنكر في زي كاهن بوذي، وكان في تنكره بارعاً، فخفى أمره على القوم حتى نجا، ولولا ذلك لهلك، كما هلك كثيرون من قبله، ومن بعده!.
-وماذا حملهم بعد ذلك على إباحة دخول الأجانب؟.
-في سنة 1904، زحفت فرقة عسكرية بريطانية كانت تحتل الهند، بقيادة الضابط “يونج”، فتوغلت في بلاد “التبت”، واستطاعت بالحيلة مرة، وبالتهديد مرة أخرى، أن تعقد مع أهل “التبت” معاهدة.
-وماذا كانت تقول تلك المعاهدة يا “مسعود”؟.
-كانت المعاهدة تبيح للأجانب أن يدخلوا البلاد في أمان، ولكن..
صمت “مسعود” لبرهة، فعاجله “كريم” وهتف به: ولكن ماذا يا “مسعود”؟. فأجابه صديقه وقال: ولكن. على الرغم من هذه المعاهدة، لم يزل دخول مدينة الموت محفوفاً بالمخاطر، فلم يدخلها من الأجانب حتى اليوم إلا عدد قليل..!