عرق الخميرة

 

                                                                  


      يُطيع -على مَضض- سحب جواز
سفره ليلة الوصول، والبُشرى البليدة من (كفيله) الطافحة بخبث الثعالب ولدغ
الحيات:(إترزق الله يا ولد، وكل أول شهر تعطيني مائتي ريال)!.

      بقنوط ويأس مبين يحمل
هاندباجه من العربة الشبيهة بعربة (البيانولا) القديمة، أو بإرجوحة في رواق بيت
مهجور!.

      يدلف من بوابة حديدية، يتلقفة
خواء الغرفة الباردة، إصطكاك أوصاله، إرتماءته الخشنة فوق أرضية باردة، تراوده
ذكري نُصح المُحبين له:(لا تذهب يا ولدي، رزق هنا، رزق هناك)!.

      لا تمنحه وفرة الأمال الغاربة،
دوامات القنوط، غيلة إفتراس أحلامه، مُطاردة رجال الجوازات، صرامه التعليمات،
إنتحاب الأمنيات، (كفيل) فقير لا يملك من حُطام أيامه غير عدد ضئيل من كباش وأغنام
برية، خيمة فقيرة بدوية، منزل شبه مهجور، كومة من تأشيرات أعمال وهمية، مؤسسة
مقاولات ورقية، وفي إغراء لا يخلو من ثقة مُتبحر بعلومه الدنيوية يبسطها أمامه
بلكنة عربية مكسرة:(ألا تريد الشقه والعروسه والشبكه والمهر والشوار وخلافه،
سأعلمك كيفية طبخ هذا المشروب السحري غالي الثمن، واترك التسويق وتأمين المكان
لي)!.

      لا يجد غير التسليم، وفي
(خُن) الغرفة المُنعزلة -بأخر صف جموع الغرف الخالية من روادها، الذين  فضلوا العودة علي البقاء في مكان قد تقتل فيه
الأحلام، كما يقتل البعوض، او اسراب الجراد- يتوافق البيان اللفظي مع الشرح
العملي!.

     من سوق الأدوات المستعمله
يبتاعا معاً حلة (برستو) ألمونيوم صغيرة لزوم التسوية، موقد غاز صغير لزوم التسخين،
ياي نحاسي لزوم التقطير، ثلاث جراكل بلاستيك لزوم التخمير، غسالة ملابس صغيرة لزوم
ضرب محتويات الخليط المكون من خميرة البيره الناعمه والسكر المذابان في
الماء!. 

      تظل اللعبة دائرة، وتعمل
الرائحة الذكية لشُجيرات الريحان الكثيفة -في الحوش الضيق المُستطيل غير المسقوف-
على إخفاء الروائح الكريهة للشوائب السائلة الناتجة من عمليات التسوية والتقطير،
كما يعمل الممر الضيق -المُلاصق لنافذة 
الألوميتال، بسوره العالي- على إخفاء (كولمن) العَرَقْ المُصَفي، والسحب
منه بالطلب!.

      مع الوقت، يخبرا معاً الحساب
البنكي، التحويلات النقدية، إرتياد الأسواق العامرة، إنجعاصة مقاعد المقاهي
الزاهرة، إقتناء أفلام (البورنو) المُثيرة التي يأت بها زميلهم التايلاندي من إحدى
مغاسل ملابس جنود (المارينز) الأمريكان بالقاعدة العسكرية القريبة!. 

        مع صرير إحدى مرات فتح
البوابة الحديدية الصدئة، تُحيط بـ(محمود) الدائرة المُحكمة برجال البحث الجنائي
وجماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر، بذقونهم الكثة، زيهم المدني الأبيض،
يتقدمهم حامل الطبنجة الميري القصير، النحيف:
كم واحد بالمنزل؟!

      بوجه كسته حبات العرق: إثنين.

-(وين) التاني؟!

-في
الغرفة المُضيئة.

      فوق الممر الناعم، ينزلق
كبيرهم، وفي ذيله رجُلين يدفعان الباب الخشبي الموارب للغرفة البعيدة، يصرخ مهيب
الطلعة في ضخم الجثة، المشغول بتسخين طعام عشائه تحت تيار التكييف البارد، الزاعق:
قُم، فز، البحث الجنائي معك، (هاذي) غرفتك؟!.

-لا، غرفة (محمود).

-(وين) غرفتك؟!

-عند مدخل المنزل.

      لا يُمهلوه إنتعال مداسه الخفيف، وفي بطن الغرفه المُجاورة للبوابة
الحديدية الصدئة، يعثر أحدهم في درج الطاولة الخشبي على ورقة وحيدة من فئة الخمسين
ريال، يتطابق رقمها المطبوع مع الرقم المدون بيد أحدهم!.

      يهرولوا من الخارج بمرشد
البحث الجنائي، مُنتشياً بقرب حصوله على مكافأة الألف ريال المرصودة له، وقبالة
المتهمين، يوجه حامل الطبنجة سؤاله الحاسم: 
مِن ْ مَنْ إبتعت شريط الفيديو يا ولد؟!

       وهو يُشير إلى (أميتاب)
الهندي: مِن هذا.

      يحاول (أميتاب) الفكاك من
دائرة السقوط، بنفي صلته به، فيُعاجله أحدهم بلكمة ينثني في اثرها للأمام وهو
يتأوه، قبل أن يعلق أحدهم  بيده قيد
الأساور الفضي إنجليزي الصنع!.

      في الغرفة الأولى، تدس قوة
الضبط  المخالب، تعمل النكش، يُدير طويل
القامة غطاء الكولمن البلاستيكي المُسجي -سهواً من صباحة ربنا- على الطاولة
الدائرية المجاورة للباب الخشبي، فيرتج المكان بالصيحة المُزلزلة: وعرق أيضاً؟!

     يرتقي أرشقهم درج السلم الحجري،
الصاعد إلى السطح المشغي بالنفايات، بكراكيب الأشياء، وبعد قليل، يهبط بصيده
الثمين، غير عابئ بثقل وزنه، ولا بالرغاوي المُخمرة الطافحة من ثقب غطائه
المُحكم!.

     يأمُر كبيرهم بتحريز المضبوطات،
إغلاق الأبواب، دس كلا المتهمين في عربتين منفصلتين، قبل أن تنطلق بهما بين شوارع
المدينة الهادئة هدوء شعشعة الفجر وأحواش القبور!.

 

                          

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *