حمل جندي “نقطة 14 مراقبة” مخلتي بإصرار عجيب اندهشت له. وبعدها،
صنع بنا طابوراً قصيراً، صار هو في مقدمته. أما أنا، ففضلت الإلتزام بذيل الطابور.
أثناء صعود المدق الصخري، كنت أتمنى الزحف عليه مخافة السقوط للخلف، ولكنني
اكتفيت بمد عنقي بانحناءة شديدة للأمام، ولم يك غريباً من رفقتي الصعود أمامي برشاقة
من اختبر المكان عدة مرات، وقد لمحت بيد العريف “”محمود”” قفص
صغير من جريد النخيل، مملوء عن أخره بعلب تونة وطماطم وبصل وبطاطس، وبعد صعودنا
المدق الصخري، وجدت نفسي ألهث بشدة، ولساني يكاد يتدلى عن فمي، ثم عبرت بونى وهمود
من فوق خندق ممتد بانحناءة أمام واجهة المبنى الطفلي، بفاصل عدة أمتار، وامتداد
لأسلاك شائكه تحيط بالمكان إحاطة السوار بالمعصم، عدا نهاية المدق الصخري الذي
صعدناه للتو.
وقفت أمام مدخل المبنى للحظات، وأنا أشعر بغصة في حلقي، وضيق مبهم، فما هذا
المبنى الذي يشبه ملجأ القردة؟.
بدا مبنى النقطة شبحي الطراز، طفلي، وواطئ جداً، ومسقوف بصاج مضلع صدئ، يبعث
في نفسي كآبة تأخذ مكاناً في الروح والقلب، في الوقت الذي راحت فيه الريح تلعب في نزاع
محموم، بغسيل متداخل منشور على حبل غسيل مشدود، وممتد على جانب التبة الأمامي، من
ساري خشبي إلى أخر.
كان الخندق مؤطراً بأكياس رمل من الخيش، وعدة سحالي ملونة وخنافس سوداء،
ترعى بداخل الخندق، فسرت في بدني، رغم البرد القارص، رجفة المحموم.
دخلنا تباعاً من فتحة مستطيلة بعلو القامة، تتوسط واجهة مبنى النقطة،
متخطين عن يميننا دكة خشبية، تعلوها كوة مربعة في الجدار، تتسجى على أرضيتها علبة
من الصاج بداخلها نبتة صبار، أخضرها في ضباب شتائي ناعم.
بعد تخطينا جدار النقطة الأمامي، إتجهنا
يساراً، عابرين دهليزاً قصيراً ضيقاً، يتراص عن يميننا بأربعة أبواب خشبية واطئة، لأربعة
غرف طفلية. الغرفة الأولى مشرعة الباب، والثانية والثالثة مغلقتا البابين، أما
الرابعة فمشرعة الباب، وفي مواجهتنا مباشرة غرفة خامسة عن يسارنا مشرعة الباب، لا
يزيد طولها عن المترين، ولا يزيد عرضها عن المتر ونصف.
كانت أبواب الغرف مجرد ألواح نحيلة، بفراغات طولية ضيقة بين لوح وآخر.
دلفنا من باب الغرفة الثالثة بانحناءة خفيفة، نظراً لقصر الباب، ثم وقفنا
على أرضية صخرية دون تعبيد، وقد بدت الغرفة واسعة مربعة، بنافذتين ذات ضوء شحيح، والغرفة
تتسع لأربعة آسرة خشبية، بعرض وطول كنبة. أما عن جدرانها. فخشنة، بطلاء جيري قديم،
ذات شقوق خفيفة، وتقوب وخدوش، يعلو جدار منها الهباب الأسود من تأثير لمبة كاز معلقة
بمسمار صدئ، يجاورها صندوق مستطيل معدني صغيرـ مرسوم على واجهته هلال بلون أحمر
قاني، بما يشير إلى احتوائه على مواد إسعافات أولية، وبجوار هذا الصندوق، صورة لآية
قرآنية ورقية مكتوبة بخط كوفي، ومثبتة بأربعة مسامير صدئة، وبجوار الآية القرآنية صورة
أخرى مثبتة أيضاً بأربعة مسامير صدئة، لقِطة بعينين خضراوين، تنظر بهما إلى أسفل، ولبرهة،
خُيَل لي، أن القِطة تتحرك، ثم تعود لتأخذ وضعها السابق، يخبرني شارباها بعدوانية،
بأني كنت مغفلاً لظني بأنها تتحرك، لكني تركت القطة في حالها، ورحت أراقب الحركات الهوجاء
المسعورة لذبابة على الدرفة الخشبية للنافذة، المطلة على خلف التبة، مهتاجة للخروج
من الناحية العلوية، مع أن الناحية السفلية أكثر اتساعاً.
ركن جندي النقطة الذي رافقنا في
رحلة الصعود مخلتي عن يمين الباب الخشبي المهترئ، ثم فتح درفة النافذة المطلة على خلف
التبة عن أخرها، فغمر الضوء الغرفة، واختفت الذبابة للأبد في الفراغ الفضي.
من أجواء روايتي القادمة “نقطة 14 مراقبة”