أوصيك بولدي


الشمس
المتوهجة وراء النافذة؛ كأنها مجرد قرص من النار يلتهب تحت القبة الشاسعة؛ وفي تلك
اللحظة انطوي على نفسي كما تطوى الرايات؛ وفجأة؛ أراها قادمة عند نهاية المدق
الترابي؛ المحاط بأشجار الكافور والسنط والزنزلخت؛ وتبدو على البعد؛ عند الفراغ
والصمت والآسى؛ كشئ ينبثق من رحم الأرض.

مثل
دقات الساعة تجئ دوماً؛ تصعد من قلب الأرض؛ وكأنها ترتقي سلماً يتجه نحو ملكوت
الرب؛ أنظر إليها وهى تمشي بقامتها المديدة؛ كرمح في يد أحد الأقدار؛ دوماً
أنتظرها لآراها وأسمعها؛ فوراء ظهورنا تتراكم دروع الجنود المحطمة؛ أشلاء الدانات؛
كعوب الطلقات الفارغة؛ الأفرولات والبيادات الممزقة والمحترقة؛ بعد أن يكسو
الظلام؛ ويتمدد السكون؛ ويروح يغط في نومٍ ثقيل؛ وتحت ظلاله يبدو صمت المقاتلين؛
وهو يستند على حائط ينوح مثل أرملة؛ ويلطخ بصوته المهزوم كل الأشياء بالفجيعة؛ بالتفاهة:
سواتر الرمال؛ الأشجار؛ الطرقات؛ المقاعد؛ المباني؛ القباب؛ الأبراج؛ الأسواق؛
الوجوه؛ الزوجة؛ الأطفال؛ صحن الطعام؛ أحلام المستقبل.

تدخل
أم سليم تحمل المشنة الصغيرة التي تحملها دوماً: كيف الحال اليوم يا أم سليم؟.

تنظر
إلىّْ؛ تبدو لى الحكاية كلها على جبينها الذي في لون التراب؛ ثم تفرش كفيها أمامي؛
وهي تهمس: بدأت الحرب بالراديو؛ وانتهت بالراديو؛ وحين انتهت قمت في غضب لأكسره؛
لولا أن أبا سليم سحبه من أمامي.

تأخذ
تعيد ربط تربيعتها أم أويه وشالها الداكن حول رأسها؛ كما تفعل حين تكون منصرفة إلى
التفكير في شئ آخر.

تستدير؛
وتمضي إلى الشرفة؛ فألحق بها بخطوات بطيئة؛ منكسرة؛ وأسألها؛ وهى تنظر إلى الحقول
المترامية:كيف الحال؟.

-يا إبن أخي؛ أريد أن
أقول لك شيئاً؛ لقد ذهب.

-إلى أين؟.

-إلى الجيش الذي أقسم
ألا يرتدي ثيابه الخشنة؛ ولا يقف في صفوفه المترنحة بعد أن..

يسقط
صمت باتر؛ متحفز؛ فيما بيننا؛ وفجأة؛ أراها قعوداً هناك؛ عجوزاً قوية اهترأ عمرها
في الكدح والمعاناة؛ تبدو كفاها مطويتان على صدرها كقطعتي حطب مشققتين؛ كجذع هرم؛
وعبر الأخاديد التي حفرتها سنين لا تحصى من العمل الصعب؛ تبدأ رحلتها الشقية مع سليم؛
منذ كان طفلاً إلى أن يشَبَ رجلاً؛ تعهدته مثلما تتعهد الأرض العشبة الهشة؛ الطرية؛
والآن؛ تنفتح الكفان فيطير من بينها عصفور الكناري الذي كان هنا وهناك عشرين سنة.

-يمضى إلى التجنيد؛
بعد أذان الفجر بأقل من ساعة. هكذا يفعل فجأة.

-ماذا قال لك؟.

-لم يقل شيئاً؛ فجأة
ذهب.

-ولِمَ ذهب؛ وقد سبق
له أن صمم على التخلف؛ مهما كان الثمن؟.

-ربما عذبه الملل؛
وأنهكه الإنتظار الذي لا ينتهي؛ فرق كبير ان تموت مرة واحدة؛ وأن تقضي السنوات
تنزف الآلم من جسدك؛ ويحطمك الضيق؛ ويفريك البؤس؛ وقلة الحيلة؛ أنا أعرف ولدي ؛
وقد عرفت أنه سوف يذهب.

-ولست حزينة؛ أو غاضبة؟.

-لا؛ بل أنني قلت
لجارتي هذا الصباح: أود لو عندي عشرة مثل سليم؛ أنا متعبة يا ولدي؛ ضاع العمر في القلق
والتعب والعرق؛ كل مساء أقول يارب؛ وكل صباح أقول يارب؛ وها هى تمر السنوات؛ ولكن؛
إذا لم يذهب؛ فمن سيذهب؟.

وتضحك؛
وهى تخبرني: قلت للمرأة التي تجلس إلى جانبي عند ناصية السوق؛ أن ولدي قد أصبح
جندياً مقاتلاً؛ أخبرتها أني أحبه وسأشتاق إليه؛ هل تعتقد أن الحرب قادمة؛ وأن
سليم سوف يحارب؟.

-ربما يا أماه.

-هيّه؛ أود لو كان
قريباً؛ فأحمل له كل يوم طعامه الذي يحبه من يدي.

-لا ضرورة لذلك؛ دعيه
يتصرف وحده؛ إن الرجل الذي يلتحق بالجيش؛ لا يحتاج بعد لرعاية أمه.

يصعد
إلى عينيها شيئاً عميقاً؛ غامضاً؛ يشبه الخيبة؛ تلك اللحظة المروعة التي تشعر فيها
أم ما؛ أنه صار بالوسع الإستغناء عن رعايتها؛ وأنها تركت في جانب ما؛ كشئ استهلكه
الإستعمال.

تدنو
مني؛ تتحير وترتبك قليلاً؛ وهى تستشعر التمزق ينهكها؛ ثم: أتعتقد ذلك؛ هل ترى حقاً
أنه من غير المفيد أن أذهب إلى حيث ضابط  سليم
لأوصيه به؛ وأقول له: أرفق بولدي؛ بارك الله في بيتك وأولادك.

-لا داعي لذلك.

-لماذا؟.

-لأنك تقصدين بذلك ألا
يعرضه الضابط للخطر.

-ولم
لا؟.

-في
هذه الحالة لن يتحقق النصر.

-إذن؛
أرجوك أن توصي أنت رئيسه الضابط ألا يغضبه؛ وقل له دون خجل أن أم  سليم تستحلفك برأس أبيك؛ وقلب أمك؛ أن تحقق لـه
ما يريد؛ إنه شاب طيب؛ وحين يريد شيئاً؛ ولا يتحقق؛ يصاب بالحزن والضيق؛ كبدي عليك
يا حبيبي؛ قل له أن يحقق له ما يريد؛ حتى لو كان يريد أن يقفز إلى نار الحرب.

تمر
الأيام؛ وأخيرا؛ تقفز الضحكة تملأ وجه أم سليم؛ كما لم يحدث أبداً من قبل؛ وكعادتها
تضع أشيائها الفقيرة بجانبها؛ وتهتف بعد غياب طويل: جاء يا ولدي؛ عاد من الجبهة.

وتدور
في الغرفة؛ فيما كان الدويّ في الخارج يستقبل حلول العيد؛ وأخبار المعارك؛ وتجلس
القرفصاء؛ وأمامي تبرق عينا سليم وراء مدفعه؛ قادماً وهو مضرج بالتراب من وراء
الليالي الطويلة التي غابها في مكمنه؛ والخنادق السوداء التي جرحت سنوات شبابه.

-جاء أمس.

-أجازه؛ ثم يعود؟.

-لا؛ قطعوا له ذراعه؛
كانت رصاصه قد..

وتشمر
عن كمها؛ وتريني كيف شقت الرصاصة لحم الساعد من الرسغ إلى الكوع؛ وفي ساعدها
الأسمر القوي الذي يشبه لون الأرض؛ أرى كيف يمكن للأمهات أن ينجبن المقاتلين؛ ويخيل
إلىّْ لوهلة أنني أرى أثر لجرح عميق؛ ولكنه كامن يمتد من  رسغ أم سليم إلى كوعها.

وفجأة
تهتف: إسم الله عليه؛ إنه يحمل ساعده كما يحمل النيشان؛ الله يحميه؛ ويحمي كل
زملائه.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top