بائع البيض – أصغر جاسوس في العالم

 

كان الصبي البدوي يداعب صباه مع الأغنام والدجاج؛ ويتأمل الفضاء؛ وفى
ظلمات الليل والرياح هوجاء يصل ضابط المخابرات؛ متحدياً صعوبات الصحراء؛ وعند بئر
للمياه؛ يأخذ جرعات متتالية قبل أن يشاهده والد الصبي؛ وكعادة أهل الصحراء؛ يضايفه
فى كوخه؛ ويدور بينهما حوار ينتهى بتكوين صداقة.

أراد الضابط تجنيد الأب؛ ولكن فضل الإنتظار حتى يتعود الأب عليه؛ بعد
أن أقنعه بأنه بانتظار وصول شحنته التجارية؛ وفى اليوم التالى؛ يترك الضابط مجلس
الأب؛ ويأخذ يتجول حول الكوخ؛ يتأمل السماء؛ حتى يصل إلى الصبي؛ ويدور بينهما حديث
عن الحرب؛ وما جرى من احتلال؛ وأثناء ذلك؛ يخطر ببال الضابط أغرب فكرة؛ وهى تجنيد
الإبن بدلاً من الأب؛ وتعليمه وتلقينه دروسا فى التخابر؛ وكيفية الحصول على
المعلومات؛ خاصة أنه من الصعوبة الشك فى صبي؛ كما أن الصبي نفسه ذكي جداً؛ ويحمل
روحا وطنية؛ وهذا ما لاحظه الضابط؛ الذى ظل أياماً ينفرد به؛ وبحذر شديد؛ حتى لا
يشك به أحد؛ وفى النهاية؛ يعرض الضابط على الصبي المهمة؛ فيبادر؛ وبفرح شديد: تحت
أمرك يا سيدي. وعندما يطمئن الضابط إلى الصبي؛ وإلى قدرته على استيعاب ما طلبه
منه؛ وقدرته على الكتمان؛ وتحمل المهمة الصعبة يقرر الإجتماع مع أبيه على مائدة
الطعام؛ وشكره على استضافته؛ ثم يطلب الرحيل؛ لتأخر قافلته التجارية؛ وعندما يذهب
لمصافحة الصبي؛ يتفقا سوياً على اللقاء عند صخرة بالقرب من شاطئ البحر.

كان اللقاء الأول عند الصخرة لقاءاً غامضاً؛ فقد تأخر الصبي عن
الموعد؛ واعتقد الضابط أن جهده قد ضاع؛ ولكن من وقت لآخر كانت الأمال لا تفارقه؛
والثوانى تمر؛ كأنها سنوات؛ حتى ظهر جسد نحيف يبرر تأخيره؛ بأنه اختار الوقت
المناسب؛ حتى لا يلمحه أحد.

كان الصبي يعرف أن مهمته صعبة؛ ودوره خطير؛ وأن حياته معلقة على
أستار أى خطأ؛ فأخذ يتلقى بصدر رحب بعض التعليمات والإرشادات التى تجعله فى مأمن؛
وذهب في طريقه ليترك الضابط وحيداً؛ شارد اللب؛ يفكر فى وسيلة تسمح للصبي بأن
يتجول فى مواقع وحصون العدو بحرية؛ وفي اليوم التالي؛ أقبل الصبي بعصاه وبأغنامه؛
وبسلة غدائه على جنبه؛ وما إن شاهده الضابط حتى صاح به: وجدتها.

يندش الصبي ويقول: ماذا؟.

وهو يربت على كتف الصبي:
نعم؛ وجدتها؛ إنه البيض الذي سيمكنك من الدخول إلى مواقع وحصون العدو بدون معاناة؛
أو شك فيك؛ إنه البيض مفتاح السر.

لم يع الصبي شيئاً؛ واندهش لصراخ الضابط؛ الذى كان دائماً هادئاً؛
وجلسا معاً على قبة الصخرة؛ ليشرح الضابط الفكرة.

تركزت الفكرة فى قيام الصبي بمقايضة البيض داخل مواقع وحصون العدو؛ وتتم
الفكرة بنجاح؛ ويبدأ الصبي يحقق صداقات مع المجندين والمجندات؛ لقد كان صديقا
مهذباً؛ وبائعاً فى نفس الوقت؛ وكان يقايض ثلاث بيضات بعلبة من اللحوم المحفوظة؛
أو المربى؛ وبعد شهر تقريباً؛ تبدأ مهمته فى جمع المعلومات بطريقة تلقائية؛ من
خلال المشاهدة والملاحظة؛ ولم يتوانى الضابط في تزويده بمزيد من بيض المخابرات
لتوسيع دائرة نشاطه؛ وبعد أسابيع معدودة؛ ينجح فى جذب عدداً أكبر من المجندين
والمجندات لصداقته؛ وكان فى كل مرة يحمل مجموعة قليلة من البيض؛ يقايضها؛ ثم يعود
إلى كوخه؛ أو إلى الضابط في دشمته؛ يحمل مجموعة أخرى إلى موقع وحصن آخر؛ وهكذا؛
حتى تعوَّد على الأمر؛ وتعود عليه المجندين؛ والمجندات؛ حتى أنهم كانوا يهللون
حينما يظهر؛ خاصة المجندة السمراء ذات الصدر النافر؛ والأرداف الممتلئة؛ رغم
نحافتها؛ التي كانت تحنو عليه؛ وتربت على كتفه؛ بل وتقبله أحياناً على وجنتيه؛
فيحمر خجلاً.

بعد أربعة أشهر؛ يتعرف الصبي على الثغرات فى حقول ألغام أربعة مواقع؛
وستة حصون لصواريخ ومدافع ثقيلة ودبابات؛ ومواقع مولدات الكهرباء وخزانات المياه؛ وبيان
عن غرف الجنود والقادة ومخازن السلاح والذخييرة ورسمها بدقة.

كان الصبي يتعرض أثناء احتكاكه بجنود العدو للمضايقات أحياناً
والشتائم والضرب من بعضهم؛ لكن دون شك فيه؛ وكان الضابط يخفف عنه؛ ويبث فيه روح
الصبر والبطولة؛
وقبل
حرب التحرير بشهر واحد؛ يهتف الضابط:
أنظر.

يفنجل الصبي عينيه: ماهذا؟.

-قطع.

يلتقط الصبي إحداها: شكلها غريب.

-نعم.

-وما هى؟.

-كل قطعه عباره عن جهاز إرسال.

-جهاز إرسال؟.

-نعم؛

ثم؛ وهو يلتقط القطعة من يد الصبي: تعالى
اجلس بجواري؛ لأشرح لك.

يجلس الصبي بجوار الضابط وهو يشرع بتدريبه
على كيفية وضع القطع المعدنية فى غرف قادة المواقع –والحصون؛ وطريقة لصقها من
الوجه المعدنى الممغنط فى الأجزاء الحديدية المختلفة؛ كقوائم الآسرة؛ وأسقف
الدواليب الحديدية.

كانت العملية مملوءة بالمخاطر والمحاذير؛
وكان هناك تردد من قيام الصبي بها؛ حتى لا يتعرض للمخاطرة؛ ولكنه رغب فى القيام
بها قائلاً: لا تقلق.

-ولكن.

-من غير لكن.

-المخاطره شديدة.

-حديد.

-حديد؟.

يبتسم الصبي: أعصابي.

 يحتضنه الضابط؛ ويقبل جبينه؛ وهو يقول له بحنو
الأب: كن حريصاً.

 ينسل
الصبي من حضن الضابط؛ وهو يهلل: عمر الشقي بقي؛ ولكن..

ثم؛ وهو ينكس رأسه: أوصيك بأبي وأمي؛ إن حدث
لي مكروه.

 تدمع عينا الضابط؛ وهو يحتضن الصبي؛ ويربت على
كتفه مودعاً؛ وهو يقول له: لا إله إلا الله.

  يرد
الصبي؛ والإبتسامه لا تفارق وجهه: محمد رسول الله.

يذهب الصبي في طريقه؛ ويترك الضابط فى قلق
شديد عليه؛ تراوده الظنون وهو ينظر إلى السماء من فتحة في سقف الدشمة؛ ولا يستطيع
الجلوس فى مكان؛ حتى قاربت الشمس على المغيب؛ فزاد القلق؛ والحيرة؛ والتساؤل: هل
تم القبض عليه؟. لابد أنه يذوق ألوان العذاب الآن؛ يا الله؛ ما العمل؟.

كان على الضابط أن ينتظر؛ ولا شئ آخر؛ حيث
مواسم الحصاد؛ ولكنه لم يتوقع أبداً أن يكون الإنتظار طويلاً هكذا؛ إنتظار يحني
الهامات؛ ويذل الرقاب؛ هو أسوأ انتظار؛ يعصف بالنفس؛ ويزهق الروح؛ يفتت الحلم؛
ويسرق الفرح؛ إنه السقوط في بئر الإحباط؛ وما إن يظهر الصبي حتى تغمر وجه الضابط
الفرحة؛ فرحة لا يمكن تصورها؛ لقد عاد الصبي بكامل صحته؛ حاملاً لعلامة النصر؛
واستطاع إنجاز أصعب عملية فى حياته؛ وحياه الضابط الذي يهتف به: حمد لله ع السلامه
يا بطل. ويأخذ يحتضنه؛ ويدور به في قلب الدشمة؛ فيرد عليه الصبي: الله يسلمك.

-كله تمام.

-تمام يا افندم.

وهكذا مكنت العملية من الإستماع إلى كل ما
يدور داخل حجرات قيادة العدو من أحاديث وأوامر؛ مما مكن من التعامل أثناء حرب
التحرير مع هذه المواقع والحصون؛ بتدمير بعضها؛ وبتوجيه إنزارات لبعضها بالإستسلام؛
وقبيل الحرب بعشرين يوما؛ تصدر أوامر بنقل الصبي وأسرته إلى مكان آمن؛ ولم يكن
الأمر سهلا؛ فقد نقل وعائلته من الأرض المحتلة إلى العاصمة؛ وبعد أيام من تحقيق
النصر؛ يدرك الصبي مدى أهمية ما قام به من أعمال خارقة؛ ساهمت فى النصر؛ ويدخل
مبنى المخابرات فيجد التاجر الأعرابى مرتديا زي أهل الحضر؛ لتملأ الدهشة وجهه؛ في
الوقت الذي تقوم فيه الدولة برعايته فى التعليم وخلافه؛ ويدور الزمان؛ ليجلس فى
مكان الضابط؛ على مقعده؛ وفى غرفته؛ ضابطاً من ضباط المخابرات العامة المصرية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top