للشيخ العارف بالله؛ الصالح؛ الطيب؛ النجيب؛ المجيب؛ الدارس للفقه والعلوم؛
والمناقش لعلماء فارس والأناضول؛ إلا بعد ان داخا بي السبع دوخات على الأطباء؛ لعلاجي
من وعكتي؛ فقد ظنا وبعض الظن إثم ان بي سحراً؛ أو مساً من الجن؛ أو لمسة لا شفاء
منها؛ ووسط دخان البخور؛ فواح عطور البرابرة من الشند والقرنفل؛ يطل الشيخ بجلبابه
الأبيض؛ الفضفاض؛ الطويل؛ بعمامته الخضراء الزاهية؛ يتوسد بقبضته الغليظة؛ رأسي
المسجي في حجره المتسع؛ يرتل آيات من الذكر الحكيم؛ ينفث بعبارات غير واضحة في كوب
زجاجي مملوءاً بالمياه؛ وبطول يده؛ يقذفه في الحائط المٌقابل؛ فيتنأثر شظايا؛ ثم: إنصرفوا
إلى شقتكم؛ فهناك زوار قادمون يطرقون العتبات؛ يحذروكم من الإنتقال بـ عرفة الي أي
شقة آخرى؛ فهو شقة مبروكة؛ بها نجم سعدكم وسعده. وفي المنزل؛ يروع أبي وأمي من
ذؤابات الضوء المتسللة من تحت عقب الباب؛ المواجه لدرج السلم المظلم؛ بالدور الأخير
من البيت القديم المشقوق نصفين؛ المسكون بالعصافير؛ وبوجل؛ يدير أبي المفتاح في
كالون الباب؛ فجأة؛ يتلاشي النور؛ فتبصق أمي في صدرها؛ وهى تبسمل وتحوقل قائلة:
اشتاتاً اشتوت؛ يجعل كلامنا خفيف عليكم؛ أسترها يارب.
يهدئ أبي من روعها؛ يربت
على كتفها؛ يحتضني منها؛ وأنا أتأوه؛ وبرباطة جأش مفتعلة: إظاهر والله أعلم إنها
من نفحات الشيخ العارف بالله؛ قومي قيدي اللمبة الكاز؛ وولعي الوابور؛ سخني عليه
العشاء؛ وصفيحة مياه.
لا يتلقي رداً؛ وبهزة
خفيفه وصوت متكئ : قومي يا وليه؛ لماذا بركتي هكذا؛ لم يحدث شئ؟.
بلهجة مرتعشة؛ متأكلة
المقاطع: إعطني الولد؛ وقم أنت بتجهيز هذا الشئ؛ فأعصابي سائبة خالص.
يغتصب ابتسامة: خائفه؛
أليس كذلك؟. ولكن؛ ماذا ستفعلين يافالحه عند تغبي في عملي؟.
تتشبع عينيها بوميض اللمبة
الكاز؛ وبنظرة قلقة؛ هيابَه: سأستدعي أم دقدق لحين عودتك.
تختلط رنات ضحكته بكلكلة
كباس الوابور؛ ويلهجه محرضة: لا؛ فالحة؛ ألم تجدي غير أم دقدق لتؤنس وحدتك؛ علي أي
حال هى قادره علي تطفيش أي جن.
ثم يستدرك: لكنها تغط في
النوم من أذان المغرب كدجاج عشتها؟.
بتنهيده؛ واقتراب: يا
خويا؛ تبات نار تصبح رماد.
ينتهي أبي وأمي من العشاء
والصلاة؛ ثم يحملاني متأوهاً؛ يخلعاً عني ردائي؛ يغمراني في طشت الإستحمام المملوء
بالماء المخلوط بسبع نقاط من الزجاجة المبروكة.
يكررا الوصفة لثلاث ليال؛ مع
رش الباقي من ماء الإستحمام في أركان الشقة؛ وامام عتبة المنزل.
بعد شفائي؛ يثنيان على
الشيخ العارف بالله؛ ثم توفي أمي بنذرها؛ فول نابت وعيش طري على محاسيب الست
الطاهرة ام هاشم.
لم يكن اهتراء سقف الشقة المسقف
بعروق الخشب والبوص والغاب؛ هو سبب قرار الرحيل الوحيد؛ بل هلع أمي كل ليلة من الأنوار
المبهمة؛ تظهر وتختفي في رواق الصاله؛ المواجه لسريرغرفة نومها ابو عمدان نحاس
وناموسية قماش؛ فمن يدريها انها من صنع الملائكة الكرام؛ يرتلون أيات الذكر الحكيم؛
كما دل الشيخ العارف بالله؛ أم من ألاعيب الشيطان وأبنائة الأبالسة.؟
يستقر بأبي وأمي المقام في
شقة متسعة الاركان؛ متينة السقف والجدران؛ بالدور الأول من العقار الحديث؛ وظلا يقنعا
نفسيهما بان الشقة الجديدة لا يقل بركة عن أي شقة أخرى في ربوع المحروسة؛ فلا داعي
للقلق؛ للحيرة؛ للتوجس.
لا يعبأ أبي بانتقاله
المرغم بأدواته من فوق رصيف المحطة بالميدان؛ إتقاءاً من شر زوار البلدية وإلحاحهم
في طلب الرخصة؛ وعودتهم في كل مرة محملين كإتواة بما لذ وطاب من مفروم ومجزوء
وملفوف اللحم المشوي على الفحم.
أتاح له حيز الفضاء أمام
نافذة الشقة؛ الوقوف بحوض الشواء المعدني؛ فاترينة العرض الزجاجية؛ الطاولة
الخشبية؛ المستديرة؛ بكراسيها الأربع؛ مظلتها القماش الدائرية؛ مع مد سلك كهرباء بعدة
لمبات ملونة؛ وقصر عمله على الوردية المسائية؛ بعيداً عن ساعات النهار الصاخبة
بمظاهرات الطلبة؛ وعمال مصانع ياسين؛ بهتافاتهم المعربدة: بالروح بالدم نفديك يا
جمال.
أيام قلائل؛ وتمضي العربات
الضخمة محملة بالجنود؛ تخترق الشوارع استعداداً للمعركة النزهة كما ادعوا ووعدوا؛ ومع
صوت العرب:ها نحارب؛ ها نحارب. ومن بعدها بأيام انطلاق صافرات الإنزار؛ نداءات طفي
النور؛ الطلاء الأرزق علي زجاج الأبواب والنوافذ والشرفات؛ إنطلاق قذائف المدفعية
الكاشفة في سماء ليل القاهرة؛ تظل أمي تزأر كاليقين بجوار صندوق الراديو الخشبي
الذي بدأت به الحرب: الله يمسيك بالخير يا عم الشيخ العارف؛ لكن من أين الخير
واليهود نكسونا ونكسوا مصر؛ كما لو أن قلبه كان يشعر بالمصيبه وحذرنا من
تغييرالعتبة؛ ففعلنا مثل جمال عندما غير العتبه؛ وذهب بجيشه إلي اليمن؛ التي لا
ناقة لنا فيها ولا جمل.
يحدجها أبي بعجب؛ فهي تملك
علي ما يبدو من حكمة العارفين الكثير؛ وبغمغمة عالية؛ قبل ان تفزع دموعه إلى عينيه:
يا ام عرفه اعقلي؛ ما علاقة الشيخ العارف بالله بـ جمال واسرائيل واليمن ولا حتي
أمريكا؟ إذهبي واصنعي لنا كوبين من الشاي؛ ودعينا نسمع أخر الأخبار.
تهبط أمي والدموع تملأ
عينيها درج السلم المتعرج؛ وهى تحتضني بحنو وقوة؛ وبصوت متكئ: ألا يزال عندك أمل أن
ندخل تل أبيب؟ لا والله؛ لقد بانت لبتها يا بطل؛ وعوضنا علي الله؛ قم؛ قم؛ وأرح
دماغك؛ ودع الملك للمالك؛ قال أخبار قال.
يدمدم أبي: ملك؛ مَالك؛
قم؛ يبدو والله أعلم أن المرأة قد فقدت عقلها.
يواصل أبي متابعة أخر
الأخبار؛ وهو في حالة من الوجوم الكامل.
وهكذا بدأت الحرب من
جانبنا بالرديو؛ واتتهت بالراديو؛ وحين انتهت؛ يقرر أبي وأمي الرحيل؛ والنزوح بي مع
النازحين الي قريتنا الشمالية؛ حيث نواح الساقية؛ آنين الناي؛ بحه أرغول حزين؛ ولا
يلويان على شئ غير ذكري تحذير الشيخ العارف بالله؛ ومشاهد الجماهير الغفيرة في
التليفزيون؛ وهي تبكي؛ تصرخ؛ تلطم الخدود؛ تنوح كالارامل؛ تلطخ بصوتها المهزوم كل
الاشياء بالفجيعة؛ تتسلق كالجرذان أعمدة الإنارة؛ النوافذ؛ المطلات؛ الشرفات؛
الجسور؛ الأشجار؛
الأرصفة؛ الخنادق؛ سواتر الرمال؛ أكشاك الصحف المعنونة بالمانشتات السوداء العريض :
مات جمال.