كان إعجاب “كريم” كبيراً بألعاب الحاوي الهندي الذي رأه في مدينة كلكتا، حتى نسى به الحاوي الصغير الذي رأه من قبل في مدينة الأسكندرية في مصر، ولحظ “مسعود” إعجابه، فقال له وهُما يتمشيان في شوارع المدينة: إنك لا تزال ترى طوائف مختلفة من هؤلاء الحواة، كلما مشيت في هذه المدينة الهندية العظيمة،
وفي تلك اللحظة، وقعت عين “كريم” على منظر رائع في الشارع، لم ير مثله من قبل في أي بلد زارها، فوقف في مكانه جامداً، وأمسك بيد “مسعود”، وهو يقول له: أنظر !.
وكان الرعب ظاهراً في عين “كريم”، فقد كان المنظر الذي رآه راعباً حقاً، إذ رأى في وسط الشارع شاباً هندياً جالساً على الأرض، وفي يده صفارة ينفخ فيها أنغاماً غريبة، وقد انتصبت أمامه حيَّة ضخمة، رافعة رأسها كأنها واقفة على قدمين، وهى تتلوى على نغمات الصفير، كأنها ترقص، ولحظ “مسعود” شدة خوف “كريم” من منظر تلك الحية الراقصة، فقال له مبتسماً: لا تخف يا “كريم”، فهذا حاو آخر، يلاعب الحيات، وهذه الحية التي يلاعبها من النوع السام، لو عضت بنابها ثوراً كبيراً لقتلته، ولكنه لا يخافها، لأنه تمرن على ملاعبتها، فهى لا تعضُه ولا تؤذيه، لأنها تحب النغمات الموسيقية التي يخرجها من صفارته، فحين تسمعها ينتصب جسمها كما ترى، وتتلوى كأنها ترقُص، ولأهل الهند ولع عجيب بترقيص الحيات على مثل هذه الأنغام، ولا يستطيع أحد غيرهم أن يحاول مثل هذه الرياضة العجيبة، فإن لهُم فيها وسائل خاصة وطرقاً غير معروفة، توارثوها أباً عن جد منذ قرون بعيدة!.
ظل “كريم” واقفاً برهة يشهد هذا المنظر المثير، وقد زال ما به من الخوف بعد كلام “مسعود”، فلما انتهى الشاب الهندي من عزفه، وانتهت الحية من رقصتها، دار الشاب على الحاضرين، فأعطاه كلًّ منهم قليلاً من المال، ثم استأنفا السائحان الصغيران المغامران جولتهما في شوارع المدينة، وبينما هُما يمشيان، وقعت عين “كريم” على منظر آخر أغرب وأعجب من كل ما رآى، إذ أبصر رجلاً عاريا من الثياب، إلا رُقعة صغيرة في وسطه، وقد وقف إلى جانب بعض الحيطان، على رجل واحدة، ورفع إحدى يديه إلى فوق، وترك يده الأخرى متدلية إلى تحت، وقد ظن “كريم” حين رآه لأول نظرة، أن سبباً من الأسباب قد حمله على رفع إحدى رجليه، ومدِّ إحدى يديه، وأنه لا يلبث أن يقف في وضع طبيعي على كلتا رجليه، وأن يخفض يده المرفوعة، ولكن الرجُل ظل في هذه الوقفة العجيبة، لا يتحرك، فلولا بريق عينيه وحركة شفتيه لظنه “كريم” تمثالاً على صورة إنسان، وكان “مسعود” قد رأى هذا المنظر كما رآه إبن أخته، فقال ل”كريم” مبتسماً: هذا منظر آخر من عجائب ما تراه العيون في بلاد الهند!
قال “كريم”: إنه لم يتحرك ، ولم يحرك يداً ولا رجلاً منذ وقعت عيني عليه، فما هذه الوقفة العجيبة؟. وإلى متى؟.
أجاب “مسعود” وهو يبتسم: لو أنك وقفت إلى جانبه حتى ينتهي النهار، لما تحرك أو غير وقفته، بل لو أنك عُدت في الغد لرأيته في مثل هذا الوضع الذي تراه فيه اليوم، كأنه تمثال حي، بل قد يظل على مثل هذا الحال أسابيع وأشهراً، وربما سنين، لا ينام، ولا يمشي، ولا يُريح عضواً من أعضاء بدنه!.
قال “كريم” مندهشاً: هذا عجيب غاية العجب ، أفلا تراه يحس بالتعب؟.
قال “مسعود”: إن هذا الرجُل واحد من الطائفة المسماة بفقراء الهند، وهُم قوم ذوو إرادة قوية وعزيمة شديدة، يصبرون على كثير من المشقات، لا يصبر على مثلها أحد غيرهم من البشر، وهُم يفرضون على أنفسهم كثيراً من أمثال هذه المتاعب، ليهذَّبوا بها أنفسهم كما يقولون، ويعودوها الإرادة والصبر، وسأريك طائفة أخرى من هؤلاء الفقراء وأحدثك بأخبارهم، لتعرف أن الهند هى أكثر بلد فيه من العجائب والأساطير والغرائب الكثير، مما لا يُعد ولا يُحصى..!.
من أجواء روايتي لليافعين “رحلة في بلاد العجائب”