في الصباح
تنهي صعودك اللاهث؛ تستلم نتائج الأشعات
والتحاليل؛ تنزلق إلى غرفة جهاز رسم القلب؛ تقابلك فتاة الغرفة
المكتنزة؛ تعطيك ظهرها الفتي؛ الداعي؛ تولج بضربة خبير طرف المفتاح المعدني في فتحة
كالون الباب الخشبي؛ وبدلال فج: الجهاز بعافيه؛ إعمل الرسم في مكان آخر.
بارتباك: ولكن..
بتأود: من غير لكن؛ أكيد ستجد عياده فاتحه.
تحيد بنظرك تحرجاً؛ غثيان غامض ينتابك؛ تفكر: مستشفي
تلك؛ أم ملهي؟.
تغادر بوهن العجوز البوابة الحديدية العتيقة للمبني
العتيد.
في المساء
تحصل بالكاد على عيادة تعمل؛ تغوص في المقعد الجلدي
الوثير؛ تتأمل السقف والجدران؛ وما علق عليها من لوحات؛ بها أبيات شعر؛ مكتوبة بخط
النسخ مره؛ والخط الكوفي مره؛ تمتدح مهارة الطبيب؛ وتعترف بفضله على مبدع الأبيات؛
ومهدي اللوحة: حباك الإله بحبٍ وعـلم / غزير العطايا قريب المنال / محياك يبعث
فينا السرور / طبيباً قديـراً أنيس الخلال / سمعت مديحاً في كل آن / شيوخاً نساءاً
وكل الرجال.
يأتي دورك في الكشف؛ يقابلك الطبيب بابتسامة مهذبة
كالقطن الطبي؛ تتمدد على الأريكة الطولية؛ الجلدية؛ الناعمة؛ يحجبك ساتر قماشي
بنقوش زاهية؛ يبرقش الطبيب صدرك العاري بالدوائر البلاستيكية الصغيرة؛ الموصولة بأسلاك
جهاز رسم القلب؛ يكبل قدميك من فوق الكعبين باسورتي الجهاز الرقيقتين؛ اللامعتين؛
بعد قليل يضخ الجهاز شريط ورقي نحيل؛ بخط
طولي متعرج ساغب السواد؛ يطويه الطبيب عدة طيات؛ يدسه في ظرف ورقي صغير؛ يركنه على
المكتب الزجاجي البراق؛ وبعد لحظات؛ يسحب الدوائر البلاستيكية عن صدرك اللاهث؛
إسورتي الجهاز عن قدميك المتخشبتين؛ تنهض برفق؛ تغلق أزرار قميصك؛ تتجه على مهل
إلى المقعد الجلدي المواجه للمكتب؛ ترفع كم ذراعك الأيمن؛ يلف الطبيب حول رسغك من
فوق الكوع شريط الحزام الجلدي الضاغط؛ يرتفع الزئبق في لوحة الجهاز الزجاجية
البراقة؛ يرتفع؛
يرتفع؛ ثم ينزل ببطء؛ ببطء؛ ينزل بسرعة في نهاية المقياس؛ يفك الطبيب شريط الحزام
الضاغط؛ تسحب كم قميصك؛ يرمقك الطبيب بنظرة جانبية متعاطفة؛ ثم: ضغطك عالي؛ سوف
أكتب لك علاج وتأتيني بعد يومين.
تأت على غير انتظار اندفاعة الدم إلى شريان القلب
فينتفض؛ تعيش حالة غير حقيقية على نحو مريب؛ وبآسى: لكن يا دكتور…
-من غير كن.
-العمليه بعد الغد
-عملية؟.
-نعم.
-في أي جزء؟.
-في عيني اليمنى.
-الأولى؟.
-لا؛ الرابعه.
بعدة إيماءات من
رأسه؛ وابتسامة جانبية خفيفة: الله معك.
ثم: أكيد في
المستشفى اياها؛ تمام؟.
تعقد ذراعيك أمام
صدرك: تمام.
بإيجاز
كالعناوين: أنصحك بتأجيل العمليه.
-لماذا؟.
-ضغط دمك.
-ماذا به؟.
-عالي.
-طبيعي.
-ولكن؛ قد تموت
بالعمليه.
-لا يموت أحد
ناقص عمر.
-ولكن..
-ولكن ماذا؟.
-لا تلقوا
بأنفسكم إلى التهلكه.
-صدق الله
العظيم.
-إذن موافق؟.
-موافق على ماذا؟.
-علاج ضغطك.
-إفعل ما تراه.
-إذن؛ سأكتب لك علاج لمدة يومين؛ وتأتيني مرة أخرى؛
مفهوم؟.
تلتزم الصمت؛ تسحب بهمود مظروف رسم القلب الورقي
الصغير؛ والورقة البيضاء ذات الخربشات الطبية الغامضة؛ تغادر في ذهول غرفة الكشف.
في البيت
يلفك الصمت؛ تنزوي في كرسي قرب الشباك؛ ترقب الخارج
لبعض الوقت؛ تشاهد أفكارك؛ ضاع الشباب؛
وبدأ العد التنازلي؛ صدق من قال أن سن الأربعين هو نقطة العد التنازلي في العمر؛
وزوجتك التي أعطتك الفرصة كاملة؛ لم تعد تحتمل الإنتظار: ما بك؛ من ساعة ما رجعت؛
كفا اللهب الشر؟.
-لا؛ أبداً؛ ضغطي عالي؛ والعلاج غالي.
-إشتريته؟.
-من أين يا امرأة؛ نحن في أخر الشهر؟.
ثم في نبرة معدنية: عشيتي العيال قبل ما يناموا؟.
بدلال: نعم يا خويا؛ وأنت؟.
تعقد ما بين حاجبيك: لا داعي؛ حنام خفيف ككل مره.
في الفراش
تتقلب؛ تولي ظهرك لزوجتك؛ بعد قليل؛ تسمع نشيجها
لثوان؛ ثم لدهشتك؛ شخيرها الخفيف.
في الصباح
تطرق الباب الخشبي برفق؛ يأتيك الصوت المعدني كصوت
قط يحتضر: أدخل.
تدلف بوجل خفيف إلى غرفة الباطنة؛ بنعومة تصك الباب
وراءك؛ تدنو ببطء؛ يلتفت إليك الطبيب الشاب وسيم الطلعة؛ يسحب من يدك ملف الأشعات
والتحاليل؛ يتفحصه على عجل؛ يتوقف أمام مقياس رسم القلب والورقة الطبية البيضاء
المدون بها قياس ضغط الدم المرتفع ونوع العلاج من طبيب عيادة الأمس؛ ثم وهو يشير
إلى موضع جانبي علوي بالورقة:هذا ضغطك؟.
توسع من عينيك: نعم.
يعقد بين حاجبيه:
هل أحضرت العلاج؟.
بتهدج: لا.
بحسم: أحسن.
يشير إلى موضع عن
يساره: خذ نفسك وراء الساتر.
وراء الساتر القماشي؛ المصفر بصفرة الكفن؛ يتناهي
إلى سمعك تواصل هسيس الطبيب مع غادته الحسناء؛ السامقة؛ مرتوية الملامح؛ المتكئة
بمرفقي ذراعيها البضتين على حافة مكتبه الخشبي العتيق؛ الباقي على ما يبدو كتذكار
حي من زمن تغلغل النفوذ الأجنبي بالبلاد؛ قبل تأميم المستشفي في العهد الجمهوري.
تتململ على الأريكة الجلدية القديمة؛ يواجهك الطبيب
ببرود جراح عالمي؛ تتمدد بظهرك على الأريكة المتهالكة؛ تفك أزار قميصك العلوية؛
يباغتك: لا داعي. تعاود إغلاق قميصك؛ ينقر صدرك بطرف السماعة الطبية؛ المعلقة
كالقرط بأذنيه؛ يباغتك بلهجة ملونة: تعالى ورائي؛ تنهض برفق؛ تستدير مع استدارة
الساتر؛ يشير إلى مقعد خشبي عن يسار مكتبه؛ تجلس بتؤدة؛ تغوص بعينيك اليسرى
السليمة في وجه أيقونته؛ غزال الريم؛ تحرك عندك ذلك الحنين الذي تفتقده منذ زمن؛ عندما
كان عبورك للنواصي موحياً؛ أو سماع صوت الحبيب؛ مما يشعل الحماس؛ ويؤجج الشجي؛
وينبت قطر الندى على حواف الدوح. يباغتك صوت الطبيب: إقترب بالكرسي؛ تمتثل؛ تكشف
عن لحم ساعدك الأيمن من فوق الكوع؛ يلتف شريط الحزام الضاغط؛ يرتفع الزئبق في لوحة
الجهاز الزجاجية الباهتة؛ يرتفع؛ يرتفع؛ ثم ينزل ببطء؛ ببطء؛ ينزل بسرعه في نهاية
المقياس؛ يوشم الطبيب نظراته نجوم مشتعلة في وجه فاتنته؛ يلوح لعينك السليمة؛
الساهمة؛ منبت نهديها الأرنبيين؛ اللينين؛ النافرين؛ من وراء فتحة ردائها الأبيض
الشاهي؛ المشقوق عند المنتصف؛ وبابتسامة لاهية؛ ولهجة ملونة: ما شاء الله؛ ضغطك أفضل من ضغطي؛ على الدور السابع عدل؛ وخذ
الباب وراءك.
ثم بلهجة عابثة: لا تنسى تسليم القرار.
تتذكر كم كابدت في استخراج قرار علاجك الوزاري؛
فتقبض عليه بقوة قبل أن تصعد السلالم لاعناً بصوت مكبوت الأسانسير المعطل دوماً.