بعد إسبوع واحد من ولادته؛ ماتت أمه بـ(حُمى النفاس)؛ ومن يد ليد؛ ومن ثدي
لثدي؛ صار يواجه مصيره؛ تلفظه قريته؛ قسوة أبيه؛ زوجته العروس؛ ليعمل (مرمطوناً)
بمطعم (كبابجي) بوسط(القاهرة)؛ وهناك تُغتال براءته؛ بسمة شفتيه؛ نحول عوده
الذابل؛ فلا يبالي؛ فهذا أهون بكثير من (الأعور) الذي حاول في طفشانه الأول أن
يعلمه النشل؛ فطفش!! ومن الأعمى الذي حاول أن يجعله يسحبه؛ ويشحذا معاً فطفش!!
فكثيراً ما كان يدفعه من ظهره بعضوه البارز أبداً!! ومن المرأة التي أخذته ليلاً
وفي حضنها أدخلته؛ فروع وطفش!! وفي المدينة الكبيرة؛ صار أشد ما يُبهره عربات
الترام؛ الأتوبيسات؛ الكاب الكاكي لعساكر الإنجليز الحُمر؛ وهم يمرون نحو مكانهم
بالمدبح!! الحناطير؛ الشارع الواسع الطافح بالزحام؛ الضحكات الرفيعة والخشنة من
البوظة المجاورة؛ النسوة المتشحات بملاءات اللف المشدودة حول خصورهن النحيلة؛
لإبراز عجيزتهن وطرف الأثواب الملونة؛ وعلى وجوههن البراقع المكشوفة؛ تحت عيونهن
الكحيلة؛ وحواجبهن المزججة؛ الرفيعة.وكذلك تلك الطاولة المستطيلة بالركن المعتم من
القاعة الفسيحة؛ الملاصقة لدورة المياه؛ بعدما صارت حاضنته الجديدة؛ لا يوقظه عن
سطحها؛ سوى تكات المفتاح في القفل الضخم؛ وعلى الفور؛ يتلقفه يوم أخر رتيب؛ يعج
بالشقاء؛ بالكنس؛ بالمسح؛ برش المياه على الرصيف الملاصق؛ وأمام الواجهة الزجاجية.
بفرش الطاولات الدائرية بالمشمع الملون؛ ولصق المقاعد الجلدية بها. بتجهيز (دوارق)
المياه ورصها بجانب (علب) الملاحات المثقوبة على حواف كل الطاولات. بتلميع المرايا
بورق الجرائد؛ خاصة مرآة الحوض. بالشب على قدميه أمام حوض غسيل الأطباق والأكواب
ورصها على الأرفف الرخامية. بغمر الأسياخ الحديدية في المياه الدافئة وكشط ما علق
بها من بقايا اللحم المحروق. بتجهيز فرن الشواء بالفحم وإخلائة من الرماد. بتعليق
المروحة (الريشية الملونة) التي خلبت لُبه؛ وهى تطارد الدخان الرمادي الممزوج
برائحة الشواء الي فوهة المدخنة.. وقد ظل أجره على مدار يومِه؛ بقايا اللحم في هذا
الصحن أو ذاك. كسرات الخبز الغارقة مع بقايا شوربة السلاطة الخضراء؛ أو سلاطة
الطحينة!! ومع الوقت؛ لم يعًد يعبأ بحركاته المكوكية (خاصة عند الظهيرة) وفوق رأسة
صواني الألمونيوم المملوءة بمفروم اللحم أو مجزوءة أو ملفوفه من ثلاجة مخزن
التجهيز المجاور!! كما صار لا تعنيه تلك القروش المدفوعة ليد أبيه كل أول شهر؛ مع
وجبة د سمة (ببلاش)؛ وكوب شاي غامق على الفحم؛ وهو يبرم طرف شاربه (الكث) في مرآة
الركن المجاور لمقعدة؛ مقطباً بين حاجبيه الكثيفين اللذين يعلوان جبينه الطافح
بالبلادة؛ وهو ينفث حِمم الوعيد في وجه ولده الممصوص: خذ بالك من عملك يا ولد؛
وحذاري شكوي المعلم منك؛ أو غضب الأسطى؛ أقتلك؛ فاهم؟.
يهمهم الولد؛ وهو منكس الرأس؛ دامع العينين: حاضر يابا.
****
يلقي الأب التحية على
المعلم المنفوش كالديك الرومي على كرسيه الوثير؛ مودعاً الأسطى المنهمك في تسوية
الطلبات في حوض الشواء؛ ماضياً إلى الخارج بشمروخه الطويل؛ بلغته الفاسي الصفراء؛
جلبابه الفضفاض؛ الطويل؛ بشته الأسود الملفوف على كتفه العريض؛ المنفوخ؛ لبدته
البني المتراقصة على رأسه الكبير. ومن ملاليم (البقشيش) التي كان يدخرها الولد
خلسه؛ ظل يقبل على التهام حبات الفول السوداني واللب والحمص والملبس والمصاصة
وبراغيت الست والسمبوسكه والحرنكش والبمبوني في الليالي المظلمة!! كما ظل يعاني
الشقاء غير عابئ بالمصير!! فيكفيه فرحة إعفاءه من (عصا) الخولي؛ قبل ان يصل إلى(القاهرة)؛
وينزل من القطار؛ وهى تلسع جسده النحيل؛ الضامر؛ المبرقش بالبثور النافرة من كعوبة
وكفوفه؛ بتأثير نزولة في خطوط القطن؛ ينحني مع رفاقة؛ يقلب الشجيرات؛ ويجمع
الأوراق المصابة بــ(اللطع) ذات اللون البني الفاتح؛ بينما يغرس (الخولي) الراية
الحمراء عند رأس الحقل؛ وهو يلبس جلبابه (الدمور) الطويل؛ وفوق راسة (طاقية) يتدلي
من تحتها (منديل) يغطي جبينة وقفاه؛ وفي يده عصاه؛ متحفزة دوماً لمن يحاول من
الأولاد والبنات أن يرفع راسة؛ أو يستريح ولو للحظة من طول انحناء!! حيث الساعات
بطيئة؛ مملة؛ والشمس في قلب السماء تصب الجحيم والعرق؛ وحين يشتد بهم التعب؛
يحاولون النسيان بالأغنيات؛ حيث تخرج اصواتهم (المسرسعة) واهنة؛ تواجة الهجير
وأشجار القطن الممتدة بلا نهاية: أبوح يا أبوح / كلب العرب مدبوح / أمه وراه بتنوح
/ بتقول يا ولدي / هات لي معاك بقره / تحلب وتسقيني / بالمعلقه الصيني / المعلقه انكسرت
/ يا مين يربيني / دخلت بيت الله / لقيت رسول الله / واقف على المنبر / في إيدية
حمام أخضر / يلغغوا سكر / يا ريت أنا دُقتُه. وها هو قطار الواحدة بعد الظهر؛ يمرق
من بعيد؛ فيحين وقت الراحه من الواحده إلى الثالثه؛ حيث يعتدل الصبي مع رفاقه من
الإنحناء؛ يمشون بين شجيرات القطن إلى أن يصلوا إلى الراية الحمراء؛ يفرغون ما
معهم من لطع في (حفرة)؛ ويشعلون فيها النار؛ ثم يحملون مناديل الطعام؛ ويمضون إلى
أقرب ظل وارف؛ وتحت الشجرة يجلسون في شكل حلقة كبيرة؛ يفتحون مناديلهم لعمل غديوه؛
أي يضع كلاً منهم طعامه على طعام الاخر لياكلوا سوياً الجبن والبصل وبعض حبات
الطماطم المسروقة من حقل قريب!! أما سعيد الحظ الذي يشتري بـ(تعريفة) طعمية؛ فإنه يبتعد
عنهم ولا يشاركهم طعامهم!! يأكل وحده؛ حرصاً وخوفاً على تلك الأقراص الرائعة
المذاق والتفرد!! وما إن تدق الساعة الثالثة؛ حتى يداخلهم الإكتئاب!! لقد حان وقت
العمل!! وها هم (ببطء) يتجهون إلى الحقل؛ يقفون صفاً صغيراً؛ ينزلون خطوط القطن؛
ينحنون؛ ويبدأ العمل. الجو حار و(الخولي) يقف خلفهم بعصاه كالسجان؛ وهم يحاولون
قطع الصمت (من جديد) بالأغنيات: يابا موسى حل الطور / والله ما انا حله / إلا ما
يميل ضله / ضله مال / ما ملشي / قوله عفا الله ما جتشي / يا عم يا للي ورا الحيط /
إنت حِلي واللا ضيف / انا ضيف ومعايا سيف / جاي أقيس الفدادين / واقطع راس
الظالمين. وفجأة؛ نسمة العصاري ترف باستحياء؛ ومع الوقت تألفهم؛
فتهبهم من نفسها الكثير. والبنت التي في الخط المجاور للولد؛ تبدو عيناها في لون
شمس الغروب؛ جميله؛ يدق قلبه لها؛ فيحاول ان يساعدها في تنقية شجيرات القطن
المزروعه في خطها؛ فيلمحه (الخولي)؛ وينهره قائلاً (خليك في حالك وشوف خطك يا
شملول). وبالفعل؛ يرضخ الولد لأوامر (الخولي) بعض الوقت؛ لكنه سرعان ما ينسى؛
فيعود إلى خط البنت ويساعدها؛ تباغته عصا (الخولي) على ظهره؛ فيتلوى من الألم. هذا
الخولي يكرهه؛ تتراكم قسوته فوق ظهره مع الأيام. وعند عودته في المغربية؛ لا يكون
له غير القنوط؛ فتافيت الجبن القريش؛ الخبز القديد؛ الدُّقه؛ عيدان السريس
والجعضيض المخلوطة بعيدان القش؛ الباقية (من صباحة ربنا) في (المشنة)؛ غير العصية
على جيوش الفئران والنمل والذباب والبعوض. ومع رشفات الماء من(القله) مشطوفة
الرقبة؛ يتكور في ركن (المندرة) المعفر بالجفاف؛ بخطوط (الحصيرة) الخشنة؛ الغائرة
حتى النخاع في جسدة الخالي من المرق واللحم؛ إلا من العيد للعيد؛ وفي يوم عاشوراء من
كل عام؛ ومواسم الجني والحصاد!! أما صنوف الطعام الأخرى؛ فلا يذوقها؛ إلا من يد عم
(بطرس) المزين في المرات التي يمر فيها من أمام حانوته الصغير؛ وقبل غرفة في
الخلاء القصي؛ وهو يردد بحنو (خذ يا أحمد يا ابني الساندوتش ولا تخجل؛ أقبل؛ واجلس
بجواري على الدكه). كما لا تنسى زوجته (مريم)؛ أن تتصعب على حال الصغير؛ وتمصمص
شفتيها؛ ثم تربت على كتفه اليابس؛ وهى تناوله ساندوتشاً آخر مغموراًً بالعسل
والقشطة؛ يلقمه منها ويفر؛ تشيعه نظرتها العطوف؛ وهو يفجر في نفسها لوعة الرثاء
على حالة البائس. وبأسى: أرأيت يا سي بطرس الواد هزلان كيف؟ وطافح الكوته كيف؟ منه
لله أبوه المفتري الذي حرمه من كل شئ حتى العطف؛ كما لو كان يا حبة عيني مقطوع من سجره؛
الله يرحمها امه؛ تركته يعاني الذل والهوان من ابوه وعقربته (نبويه)؛ أبوه هذا لن
يورد على جنة أبداً؛ يا حبة عيني حال الولد يصعب على الكافر؛ أليس كذلك يا سي
بطرس؟.
بنبرة هادئة: يا امرأه اعقلي؛ ثم إنك لم تتركي شئ اقوله؛
حكمتك يارب؛ تمنحنا من الخير شئ وشويات إلا الولد.
****
يذكر الصبي (أحمد) أنه مع كل قضمة؛ يمتص من شفتيه بسمته المموهة بالشحوب؛
تصعد عنوة من جوفه المقلي بالقنوط؛ كسرة النفس. لاهثاً وراء جلبابه المخطط ؛
القصير؛ منحول الياقة والكيعان وأطراف الأكمام؛ وعلى رأسه الطاقية المغبرة
بالأتربة والثقوب؛ الغاطسة حتى اذنيه وعينيه الزائغتين الممصوصتين بالقهر؛ قلة
الحيلة؛ ندرة الربت الحنون على كتفِه المهاجر للشطوط كل صباح. وهاهو الولد كان قد شب وأتقن صنعة
الشواء؛ وتهافت عليه الكثير من أرباب المطاعم؛ لكنه لم يسلم من سطو أبيه مع صباح كل أول شهر؛ ولم تشفع له ارتماءته
الخشنة كل مساء في صحن غرفته الخشبية؛ المطلة على السطوح المغبر بالأتربة؛ والمملوء
بالنفايات وروبابيكيا الأشياء الملفوظة من الشقق التحتية؛ إضافة إلى قأقأة الدجاج
وعراك الديوك من العشة المجاورة؛ ونداءات الباعة الجائلين؛ وصيحات النسوة على
أولادهن؛ وهم يلهون في الحارة بالكرة الشراب؛ البلي؛ تريك تراك؛ الحَجلة؛ نطة
الإنجليز؛ خلاويص؛ تذكره بطفولته المغتاله فوق شطوط قريته وبطن المدينة المتوحشة؛
المبدورة بعوائه المكبوت؛ رعدة القنوط؛ رجفة الفقر؛ وهو يتمعن صورته في المرآة
الصغيرة المعلقة على الجدار الملاصق لفرشته الخشنة؛ متأملاً خطوط الشعيرات الصفراء
على شفته العليا؛ تحثه على تحطيم رتابه حياته؛ شقائه؛ كسر دائرة أسّْرِه؛ وألا
يقنع بالفتات؛ ضيم المشاعر؛ النبوءات المؤجلة بدنو الخلاص من واقعه المرير؛ لأئذاَ
من جديد بالطفشان؛ وترك (القاهرة) بأسرها لأبيه المفتري؛ شخشيخة (نبويه)؛ ممتطياً
صهوة جواده المغامر؛ هابطاً بـ(باراشوت) الأمل في أخر بلدة يحط بها باص الدلتا؛
فكانت (الأسكندرية)؛ حاضنته الجديدة؛ مزهواًً بقدرته على كسر جدار شرنقته؛ أغلال
رقه؛ أيامه البليدة؛ مهارته (كأسطي كبابجي) في العمل بالمطعم الكبير؛ المواجه
لميدان المحطة. وفي(القاهرة)؛ يمشط أبيه مطاعم العاصمة؛ أنهار الحارات؛ ممرات
الأزقة؛ بطون الشوارع؛ ساحات المساجد؛ تكايا الزوايا؛ أقسام البوليس؛ الأسبلة؛
عنابر المستشفيات؛ المشارح؛ ترب الصدقة؛ الأرصفة؛ الأضرحة؛ ولا يبخل بالدعاء (ندرن
عليّ يا ابني لو عدت لي بالسلامه لفرق كيلتين فول نابت وعشر أقماع سكر على محاسيب
سيدنا الحسين؛ وستنا زينب). وبعد عديد من السنين؛ لا يعثر(أحمد) في مفردات قاموس
حياته؛ أرشيف نثار ذكرياته؛ غيرعودة مستحقة للطرق على باب عم(بطرس) المزين؛
وامرآته (مريم)؛ بجلبة تشق سكون الليل والمكان؛ بالدهشة من هذا القادم؛ المحمل
بالهدايا؛ ووعثاء السفر؛ والشوق الظامئ للقاء؛ وبلهجة متهدجة (أحمد؛ حمد لله على
سلامتك يا ولدي). فيرتمي (أحمد) في حضن عم (بطرس)؛ وكلاهما يجهش بالبكاء؛ ثم (أين
أمي مريم؟).
وهو ينشج ويمسح دموعه: تعيش انت يا ولدي.
-ماتت؟.
-نعم يا ولدي؛ ماتت بعد أبيك بحوالي عامين.
يربت (أحمد) على كتف عم (بطرس) اليابس؛ وهو ينظر بعينين
دامعتين إلى الصليب الخشبي المعلق بمسمار صدئ على الجدار الباهت؛ مقشوط الطلاء؛
والدكة الخشبية مبتورة البطن والجوانب والملاصقة للجدار الطيني الخشن ومسطبة
البحراية؛ وبصوت متهدج (البقيه في حياتك يا عم بطرس؛ شد حيلك؛ طول عمري بعتبر مريم
أمي التي لم أرها؛ ولو كانت أمي حية ما كانت ستصبح أكثر منها حناناً وعطفاً؛ الله
يرحمها؛ ويجعل مثواها الجنه). وعند العودة؛ لا ينسى (أحمد) قراءة الفاتحة أمام قبر
(مريم) القريب من دير ملاك كنيسة (حنين)؛ وإلقاء نظرة وداع أخيرة من نافذة سيارته (الكاديلاك)
السوداء؛ المارقه به وسط الحقول؛ يدغدغه مشهده الموغل قي القدم؛ وهو ينحني مع رفاقه
بين خطوط القطن؛ القريبه من قبر أببه المسجى (كزوال المآتة) في ذاكرته المعذبَة به؛
وبشقاء ترانزيت أيامه الخوالي.