متاهة الأمير

إلتفت الضابط “خميس” نحونا، بمحياه الذاوي المكسو بالغضون، ولا أعلم
لماذا هذه المرة تغير انطباعي عنه، إذ فكرت بأنه شاب، وقد أخذ منه المكان المنعزل
المقفر ما أخذ. وفي الواقع. وأنا واثق من ذلك تماما، أنه في نحو السابعة والعشرين
من عمره فقط، وحين تفدم هذا الضابط نحونا، بدا كمن يحاول أن يرقص رقصة غير بارعة،
والسبب.. هذا العرج الخفيف في مشيته، والذي يبدو كعرج الضباع، وحالما أشار إلى
العربة، أخذنا نعتلي الممر الضيق بجانب الفنطاس، وعلى مقعد بجوار العريف “”محمود””
سائق العربة، جلس الضابط “خميس” بأنفة بادية. وبعد قليل. دار موتور
العربة، فزمجرت، وأخذت تثب وتتراجع، ثم تلفظ وراءها عدة دفعات من الدخان الأسود، وبعدها
غادرت المكان ببطء موكب جنازة، ثم انحرفت يساراً، واعتلت الطريق الأسفلتي الغائم غير
المطروق، وبعد عدة دقائق، برز على جانب من الطريق مبنيين حجريين، كل مبنى من دورين،
مخصصين لقادة الكتيبة، الأعلى رتبة، وعلى سطح أحد المبنيين، بدا العلم بألوانه الثلاثة
الأحمر والأبيض والأسود، يرفرف بشدة، وبعد مسافة قصيرة، رفعت بصري إلى نور باهت بلا
ضفاف، ورمال لا يحدها بصر، ورغم علمي بأن تلك الصحراء متاهة، غير أنني كنت قد عولت
عليها منذ زمن، أن تكون من نصيبي، وفي وحدتي المتأملة تلك، أبصرت الصحراء كما لو
كانت تهتف بي (“أيها الجندي. مد بصرك وشاهد الرمال). فمددت بصري إلى أبعد نقطة
فيها، فدُهشت عيني وسكنت وتاهت من النظر، ومن سفر البصر، فكانت أولى عطايا تلك
الصحراء التي لا تُحصى كنعم الله، فشكرتها بمودة، وقررت الإنصياع والإرتماء في حضنها،
وحضن تلك الجبال القفر الخالية من الونس، والتي لم تبدد وحشتها، تلك الخضرة القليلة
التي تتشم وجه الأرض، وصفير هبات الريح الفجائية الباردة، الأتية من الوديان المبطوحة
المدفونة في القاع، والخالية من البشر والعمران، ومن أجل هذا. بدا كون هذه الصحراء
عصي عن الفهم، مع أنه في متناول الرؤية والإدراك. ولأننا في قلب
تلك الصحراء، أذكر أنه كان على تلك الرمال أمير أوروبي، حديث عهد بالإمارة، من يدخل
متاهته العظيمة، لا يخرُج منها إلا مُنهك، وقد قيل له: في الباب أمير عربي. فقال: سنجرب
اللعبة عليه. وضحك. فدخل الأمير العربي المتاهة صباحاً، ولم يخرج منها إلا في منتصف
الليل متعباً، يشعر بالإهانة والتجريح، ولكن، إستقبله الأمير الأوروبي وحياه، وأفسح
له في مجلسه، وسأله عن متاهته. فضحك الأمير العربي وقال: متاهتك جميلة، ولكنها ضيقة
ومحدودة. سأريك متاهتي أنا بعد حين. وغادر الأمير العربي إلى بلاده، وجهز جيشاً كبيراً،
وأغار على مدينة الأمير الأوروبي، وأسره، وأخذه الى حدود تلك الصحراء، وهناك. نزل الأمير
العربي عن حصانه وأعطاه للأمير الأوروبي، وقال له: هذا أسرع حصان، خذه فهو لك، هذه
هى متاهتي. مشيراً إلى الصحراء: أنت حُر. وبسرعة ركب الأمير الأوروبي الحصان، وركض
علَّه يهرب. لكن مصيره كان الموت بين تلك الأحجار والصخور الهائلة التي تجلس بأبهة،
مجاورة كثبان رملية ملونة، لم يطأها إنس ولا جان منذ عصور، مرمية بكرم أصيل وإهمال
في كل مكان من عالم يغمرنا الأن شمساً وغياماً وصمتاً وصخراً ورمالاً. عالم  يبدو بعيداً وهو قريب، الرؤية فيه واضحة وغامضة،
والضوء فيه يُنير ويعمي، والوديان والجبال والهضاب والتلول والتباب فيه نعبرها بلا
حواجز، وبلا ضفاف، بل وبلا نطفة ماء، وبلا نطفة خضراء تخصب العين. وكأن الطبيعة التي
وهبت “تلك الصحراء كل شئ، قد أخذت منها أيضاً كل شئ. ولكن. ماذا بقى لي غير أن
أنتظر وأنتظر، أتعثر وأتبعتر، وأُدهش من أرض تزاوجت من الغيم والضباب، الذين صارا يمنحاها
لونا
×فضيا غامضاً، إكتشفت فيه غموض الفض وبهاتته.
وفي وحدتي المتأملة تلك. هتف الضابط “خميس” من نافذة العربة (أنظروا). فمددت
عنقي إلى أعلى، فأبصرت
سلسلة جبلية بسقت عن الوقت السحيق الذي انفجرت فيه الأرض وتلوت، وأخرجت من البطن
المعذّب وسط آنات القمم العالية والسفوح المنحدرة، واندفعت الجبال الصخرية صارخة،
صاخبة إلى أعلى حتى انثنت عند الذرا دون ما هدف، أو قصد، وتصارعت الجبال التوأمية
في آلم يدفع إلى اليأس، ساعية إلى مكان، إلى أن انتصر واحد منها وارتفع، وألقى
بأخيه التوأم إلى جانب بعيد وتحطم. وما زالت هناك من تلك العصور في المفازات قمم
جبال محطمة، وصخور مشقوقة مطرودة، وكلما هطلت الأمطار، واندفعت إلى أسفل في تيارات
مياه منهمرة، دفعت معها كتلاً من الصخر في حجم البيت، فحطمتها، وبعثرت شظاياها،
كأنها الزجاج، أو قذفت بها بضربة عنيفة إلى أعماق الرمال الرخوة، وقد ظلت تقول
دائماً نفس الشئ هذه الجبال الصخرية، وظل من السهل فهم قولها، كلما نظر الإنسان
إلى الجدران الصلدة الملتوية، طبقة بعد طبقة، والمتوارية المنفجرة التي تمتلئ كلها
بالجراح الصارخة، وقد ظلت تقول “لقد قاسينا الشئ الفظيع، وما زلنا نقاسي”.
ولكنها استمرت تقول هذا بفخار وقوة وتمالك للنفس، كأنها من المحاربين العتاة الذين
لا تمتد لهم يد الفناء. فيا خالق الحَب والنوى، ما هذه القلعة الجبلية الهائلة
الممتدة، التي تكاد تلامس السحب، ولا يمكن الوصول إليها بلا أجنحة؟. ولكن. لماذا
تعتلي قمة الجبل البادي كعلم أسطوري من أعلام الكون. ما هى قصتها؟. ولماذا تبدو
هكذا كقطعة قُضت من صخر، وتتمنع على من يريد الإستيلاء عليها. يا إلهي. إنها تبدو
كجمال أسطورين لا تكف حياة واحدة لإدراكه وسبر غوره. إذ تبدو كصخرة هائلة قائمة
بذاتها، ترتكز على قمة الجبل. ولكن، كيف ترتكز. كيف تظل هكذا ثابتة، لم تسقطها
الريح والسيول على مر الزمن. وهل تزحزحها ذات يوم عاصفة، وتأتي عاصفة أخرى،
فتزحزحها أكثر، ثم تهوي مع الثالثة، فتحدث دوياً هائلاً، وهى تتدحرج بقوة مندفعة
إلى القرار. أم يا ترى تبقى في مكانها رغم العواصف، لآن الله يريدها هكذا قلعة
للمحلربيت القدماء
.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *