ماما دوبا


ماما دوبا

 

فندق من أربعة أدوار؛ بيوت
لا ترتفع أكثر من دورين؛ حياة تنسحب؛ لا أحد يمر؛ نهار يستأذن في انصراف؛ عتمة
غروب؛ تخلي مكاناً لظلمة مساء.

تشعر بوحدة وكآبة؛ بلكون
غرفة يطل على منحنى شارع؛ حدادي سوداء تهوم جائعة في ارتفاعات منخفضة؛ تنقض حدائة
على رأس تريد أن تخطف شيئاً؛ مشط شعر يلمع؛ له رائحة بسيطة. مجرد خدوش.

في أطراف المدينة السمراء؛
حياة أخرى مع المساء؛ يتزاحم شريبة في حانات فقيرة؛ يتكدسون أمام مساكن داعرات؛
يقفون في طوابير؛ كل ينتظر دوره؛ كما في دورات المياه؛ يعود رجل أخر الليل؛ يرتمي
على باب داره؛ متخم بخمر؛ منهَك بجنس؛ يظل جثة حتى الصباح؛ لكن غالباً ما تسحبه
زوجته إلى الداخل.

يتردد آذان العصر؛ يقوم
حارس حديقة الحيوان يؤدي الصلاة؛ ما إن يلقي السلام يميناً و يساراً حتى تمتد يده
إلى زجاجة شيري؛ كل الفروض هنا تؤدَى بإخلاص.

يطرق الباب خادم أسود قادم
من الجنوب؛ وأنت بضيافة صديق؛ الخادم يتحدث بانجليزية مكسرة؛ يرفع صينية أكل من
فوق طبلية؛ كل يوم له إسم؛ يرغب في أن يفر من سحر؛ ويتخفى من أرواح شريرة؛ ينام
إلى جوار الباب ككلب؛ يقوم بكل عمل مهين؛ يجمع زبل حمام؛ ينظف تحت فراخ؛ يطهو
طعام؛ يغسل كل شئ حتى ملابس النساء؛ وليس له أية حقوق كإنسان؛ حتى الفقير هنا
يستغل من هو أكثر منه فقراً.

مضيف ثان يقدم إليك خدماً
جنوبيين؛ يحملون أسماء تمت لأكثر من دِين: شيخ عثمان جونسون؛ دافيد عمر عبد الله؛
محمد جاك إدوارد؛ يتدلي من صدر كل منهم صليب؛ ويحفظ البعض عدداً من آيات القرآن.

الأبدان سمراء تقاوم
الطبيعة؛ وتتحدي البيئة؛ الأتربة كثيفة؛ والشمس رهيبة؛ والعرق غزير؛ لكن الملابس
بيضاء؛ دائماً بيضاء.

الجنس هنا له طقوس؛ المرأة
تخلط العطور؛ لتصنع لنفسها عطراً خاصاً يلتصق بها؛ يميزها في السرير عن غيرها من
النساء؛ تقف عارية فوق حفرة نار؛ يلفها دخان بالساعات؛ ينداح عرق؛ يذوب دهن؛ يلين
لحم؛ تصبح كتلة عجين تفرَد وتجمع؛ تنضم مع عناق؛ وتتسع في التصاق.

في فندق الواحة؛ الذي يتخذ
شكل الفيللا؛ ويضم البيسين الوحيد في المدينة؛ تسبح بمايوهات بعض نساء وفتيات
أجنبيات؛ بيضاوات الأجساد؛ ويتمدد البعض الآخر على جوانب البيسين؛ يكتسبن من الشمس
لون برونزي؛ وفي بار صغير على البيسين يجلس زوجان؛ مواطنان أسمران بملابس أوروبية؛
ولكنهما يتحدثان بلغة أوروبية؛ ويتبادلان أحياناً بعض جمل تشجيعية مع زوجتين
يهوديتين تسبحان في الماء؛ وبأطراف المدينة منطقة سكنية جديدة؛ بها بعض بيوت
حديثة؛ أما المنطقة التي يسكنها الأجانب؛ فهى كما في جميع مدن أفريقيا أرقي وأنظف
مناطق المدينة؛ فيللات أنيقة؛ وحدائق منمقة؛ وشوارع مسفلتة؛ هادئة؛ ويعيش أغلبية
السكان في أغلال فقر وبؤس؛ داخل بيوت كئيبة من طين وقش وبوص؛ وبعضهم في أكواخ
متهدمة من خشب وصفيح؛ ولا تفترق بيوت الطين هنا كثيراً عن بيوت الطين بقريتك الصعيدية.

المرور داخل العاصمة
إنجليزي النظام؛ عجلات القيادة بجميع السيارات على يمين؛ ترتبك دائماً وتخطئ عند
عبور كل طريق؛ وفي الجراند أوتيل؛ ذلك الفندق العريق الذي يطل على بحر النيل؛
يشغِل التراس بعض عائلات إنجليزية ويهودية وسويسرية وفرنسية؛ وبعض مواطنين؛ الرجال
بشورتات؛ والوجوه بيضاء؛ محمرة؛ وشعر السيقان أصفر؛ خشن كمسامير؛ الجرسونات سّمر
بجلابيب بيضاء وأحزمة حمراء يقفون في أذيالهم؛ ويسارعون إلى خدمتهم؛ ويهملون غيرهم
من الرواد؛ ولا زالت معظم الدوائر الحكومية والبنوك تمارس أعمالها بلغة انجليزية؛
وأهم الواردات وأغلب المعروضات بالأسواق من صناعة بريطانية ويهودية وأمريكية وصينية؛
ونادراً مصرية؛ ولا زالت أغلب الشفاة تلحن أثناء الحديث بكلمات إنجليزية؛ وتتعثر
بديلاتها العربية.

ستسهر الليلة بمنزل في
امتداد. إكرام الضيف: كثير من خمر ومضاجعة بعض نساء. عديدة متتالية هنا بيوت
المتعة؛ لكن بعض الأبواب تحمل لافتات تخبر بأنها بيوت أحرار. دائماً في كل مكان
هنا ثالوث المرأة والفقر والمال. سيكون في الإستقبال إبراهيم روسمان؛ رجل حامض؛
كريه البسمات؛ يسبق القادمين إلى قاعة متسعة وثيرة الأثاث؛ على جوانبها أبواب لغرف
نوم.

تدخل فتيات سمراوات في
ملابس أجنبية مودرن؛ يسبقهن أريج عطور فرنسية؛ أكثرهن فتيات نساء لم يتزوجن؛ كلهن
في عمر الزهور؛ تدور أعمارهن حول الثامنة عشر؛ كأنهن مطلوبات للتجنيد؛ يجلسن
متباعدات في الأرائك؛ ينتقل إليهن رجال؛ ويبدأ التعارف والكلام؛ دائماً يدخل من
النساء ضعف عدد الرجال؛ تقاليد ومراسم متفق عليها؛ إبن جنوب أسود يحمل زجاجات بيرة
لمن يبقين من نساء؛ البيرة وطنية تحمل ماركة أبو جَمل؛ يحتسي الجميع البيرة بين
سمَر ونكات ملونة؛ تختزل المسافات دون تلامس؛ أو عناق؛ قد تستمر الجلسة ساعة؛ أو
ساعتين؛ ثم يسحب كل رجل من اختارها من الفتيات؛ وينغلق الباب.

تكتشف أن الفستان الأنيق
ملبوس على اللحم؛ وأن كل شئ جاهز؛ تتحدث فتاتك بجمَل عربية مكسرة؛ حظك أنها من
أسمَره؛ تحمل ملامح دقيقة؛ متناسقة؛ كوجه فتاة فرعونية؛ طرية الملمس؛ طازجة؛
دافئة؛ مقبلة؛ تتصنع السذاجة؛ أو لعلها صادقة؛ تشعر أن الرجل الأبيض لا زال هو
السيد؛ له تقديس؛ قد تنتظر من ورائه نقوداً أكثر؛ أو لعلها تشعر بالسعادة؛ إذ
تتمدد تحت رجل ليس بأسود؛ التاريخ لا يتوقف؛ يبدل الأساليب ولكنه مستمر؛ ففي
القديم كان الرجال أشداء؛ بجلود سوداء؛ يحملون بنادق وسياط؛ يغيرون على قرى؛
ويسحبون أهالي خلفهم بحبال؛ نساء؛ أطفال؛ رجال؛ صفوف طويلة؛ تتعالى صرخات وفرقعات
سياط؛ لون واحد؛ لكن الجميع يعرفون أن النخاس الكبير ينتظرهم في أخر السفينة بجلد
أبيض.

تمتلئ أسواق بأنواع من
أدوية وكريمات تصدرها أوروبا؛ تحرق الجلد؛ وتوهم بالإقتراب من البياض؛ وتشترك معظم
النساء في رغبة الهروب من جحيم اللون.

تسأل مضيفك؛ الأديب؛ الشاعر؛
ومدير أحد البنوك: هل يمكن أن يتزوج الجنوبي بنتا شمالية؟.

يثور صاحبنا؛ ويصرخ: لا؛ لا
يمكن.

تعود تتسحب لتسأل: حتى ولو
كانت خادمة معدمة مثله؟.

يعود إلى غضبه ويصيح: يستحيل.

تجد نفسك تنهي النقاش؛ تسكت
على مضض؛ وتبقى أنت تنوء بمشكلتك؛ فأنت لا تقبل أن يظلم أي إنسان في أي مكان.

في السوق؛ تجلس نسوة؛ جِدات
بائسات؛ يفترشن الأرض؛ يبعن سلال وفخار وأكواز صفيح؛ يعرض عليك بعض الرجال نعالاً
من كاوتشوك سيارات تشبه القبقاب؛ يصيحون في وجهك:تموت تخليه؛ تموت تخليه. إسم
النعل جذاب؛ فيه بلاغة؛ فهو يخدمك العمر كله؛ ويبقى بعد الممات. ينهمر مطر كثيف؛
وأنت في أطراف السوق؛ تعدو مسرعاً تجاه دكان صغير في جدار مهدم؛ تقول: السلام
عليكم.

يرد شيخ حلو التقاطيع؛ باسم
النظرات: وعليكم السلام؛ إتفضل أقعد معانا؛ لا من المطر تقيف.

-ألف شكر؛ يا ترى في
تاكسيات تمر من هنا؟.

-هسه؛ ما ممكن؛ لكين لو
مشيت بالشارع ده طوالي؛ رايح تلم في شارع الظلط؛ هناك تشوف إن شالله يكون محلك مو
بعيد.

وعند المنحني؛ ينزلق عن بعد
تمساح كبير يترك الشط إلى بحر النيل؛ هنا يقترن النيلان العظيمان. ترحل بنظرك حول
مياه متحركة عريضة الإمتداد؛ إلى أفق برتقالي بعيد؛ يخالطه إحمرار يذوب في زرقة
سماء نقية؛ ويسيطر على لوحة صامتة؛ فطرة بكر؛ وطبيعة أبدية.

هنا الناس كرماء بلا حدود؛
ولكن الحرب الأهلية افائتة التي أنهكتهم كثيراً تدفعهم إلى فعل أشياء لا يرضون
عنها؛ إنها عضة الجوع؛ وعند صديقك الشاعر يقرأ عليك قصة قصيرة عن قبيلة بطرف غابة
تفترش الأرض حول زعيم هرم؛ يجلس فوق جذع شجرة؛ يصدر أحكام ويفصل في شكاوي؛ يشكو
أحد الأزواج إمرأته التي سارت خلف رجل؛ ولم تنتظر عودته؛ تشير المرأة إلى فتحة
فمها؛ بأن هذا يريد أن يأكل؛ ثم فتحة جسدها؛ فهو أيضاً يريد أن يأكل؛ الوقار
والطاعة لزعيم القبيلة؛ أحكامه أوامر؛ الجلسة معقودة؛ حامية؛ وحين يمر أرنب بري
يقفز بين الأحراش تنهار الجلسة؛ يتساوى الجميع في الإندفاع خلفه؛ الكل يريد اصطياده؛
فالجوع لا يفرق بين رجل وإمرأة وزعيم.

هى بيضاء؛ ممتلئة؛ قصيرة؛
شعرها أسود فاحم؛ تحمل وجهاً مكوراً كوجه طفل؛ تلوح سيدة دون الثلاثين؛ ملابسها
بسيطة غير ملفتة؛ تجلس منعزلة وحيدة إلى مائدة صغيرة على يمين صالة طعام؛ دائماً
تشغل نفس المائدة وقت الإفطار؛ الغداء؛ العشاء؛ بينما تعتاد أنت أن تجلس إلى مائدة
بعينها على يسار في مواجهتها.

تخرج من حقيبتها الجلدية
بعض أوراق تطل فيها؛ وهى تنتظر حضور الطعام؛ يبدو أنها إمرأة أعمال؛ أو مندوبة
لإحدى الشركات؛ لا ينزل بهذا الفندق إلا الأجانب ذو البشرة البيضاء؛ جميع العاملين
بالفندق سود وطنيين؛ فندق بريستول نظيف؛ أربعة نجوم؛ تحاول النظرات المتبادلة عفوا
بينكما أن تحمل بعض أسئلة؛ تقول لها: لماذا أنت بمفردك؛ أنا أيضا بمفردي؛ هل من
الممكن أن نتعارف؟. ولابد أنك تبعث مع النظرات شئ من الإعجاب.

تتجرأ ذات مرة؛ وتحني لها
رأسك؛ وأنت تمر بها في الطريق إلى مائدتك؛ تهز رأسها بمودة وتبتسم بترحاب؛ لعلها
كانت تنتظر منك هذه الخطوة؛ أو لعل ذلك شيئاً عادياً.

ثم تقبل على الخطوة الثانية؛
تقف لتتحدث معها أثناء مرورك بمائدتها وقت العشاء؛ ثم تطلب منها أن تشاركها
الجلوس؛ هى تتحدث انجليزية بلكنة فرنسية؛ تعمل بإحدي شركات الأدوية السويسرية؛
تحمل لقب دكتور في علم الصيدلة؛ ثدياها ضخمان؛ ينوء بهما نصفها الأعلي. أنت تأكل
بسرعة؛ بينما هى جالسة تنأنأ وتأكل براحتها؛ هل الإسراع في تناول الطعام عادة يختص
بها أبناء الدول النامية؛ أم هى ظاهرة تخص بعض الرجال؟.

تشير أنت إلى خادم أسود أن
يرفع أطباقك الفارغة؛ ولكن الخادم ينحني بأدب جم؛ ليسر في أذنك بأن السيدة لم
تنتهي بعد من تناول طعامها؛ تهز رأسك بسرعة وخجل لتنهي الموضوع؛ وكأنك تعلم هذا
الجزء من أداب المائدة وسهي عليك.

تقوما معاً بعد العشاء إلى
بار؛ هى لا تشرب إلا النبيذ؛ كميات معقولة؛ وترى أنت من باب المجاملة أن تشاركها
نفس الشراب؛ ولكنك حين ترفع بيدك الكأس لتشرب في صحتها؛ تكاد أن تضحك؛ وأنت
تتخيلها المرأة ذات الصدر البارز من فستان السهرة الأبيض في لوحة شاجال؛ وأنت تجلس
فوق كتفيها بجاجت أحمر؛ وترفع يدك بكأس من نبيذ.

هى لا تدخن؛ تقول أن الدخان
لا يضايقها؛ لكن الإبتعاد عنه أفضل؛ إجابة لبقة؛ وتضطر إلى إعادة علبة الدخان إلى
جيبك؛ وتمتنع عن التدخين في حضرتها.

يدنو أحد عمال الفندق ليرش
مبيداً حشريا على حوائط سفلية؛ ويعتذر قائلاً بأن الناموس لعين؛ يكمن دائماً
قريباً من الأرض.

 الركن شاعري؛ معتم؛ مقعدان وثيران؛ ومنضدة أنيقة
عليها باقة ورد ملون وشمعة حمراء؛ يتراقص ضؤها في ظلام؛ ويلقي بظلال عابثة تتماوج
على وجهها.

هى لا تحب هذه البلد؛ ولا
تحب أهلها؛ زملاؤها في العمل يرهبون السفر إليها؛ وإلى أمثالها من بلاد خط
الإستواء في أفريقيا؛ الأمراض هنا كثيرة؛ غريبة؛ لا يعرفها الطب؛ وليس لأكثرها
أدوية؛ هناك ذبابة تصيب العين وتملؤها بنوع من دود يسبب عمى سريع؛ إذا لم ينقل
المصاب إلى أوروبا خلال 24 ساعة.

يداخلك بعض الخوف؛ تجد أنك
لابد أن تسأل عما فعلت هى للوقاية من هذه الأمراض؛ وخاصة حمي الملاريا الخبيثة
التي تحذر منها الدولة نفسها؛ بكل وسائل الإعلان؛ وبالملصقات في كل مكان حتى في
طريق المطار؛ تخبرك بأن لديهم في سويسرا جهازاً مختصاً كالقومسيون الطبي يلجأ إليه
المسافرون؛ فيخبرهم بالأمراض التي تنتشر في كل منطقة؛ ويحصنهم ضدها؛ وإنها أخذت
عدداً من حقن ومعها بعض حبوب؛ أما عن الملاريا فإن الوقاية الوحيدة المعروفة وهى
حبوب الكينين؛ فاعليتها ضئيلة؛ ولكنها كنصيحة الأطباء المختصين تعطي نفسها كل يوم حقنة
فيتامين ب 12؛ فهذا الفيتامين يكسب الدم رائحة نفاذة لا يقبلها الناموس.

وحين تنتهي هذه الجلسة
العلمية؛ تتبادلان التحية أمام الأسانسير؛ وتتواعدان على اللقاء باكر على مائدة
الإفطار.

الشمس خارج الفندق استوائية؛
حارقة؛ طرقات خانقة؛ رطوبة ثقيلة؛ لزجة؛ لا هواء؛ تنهج بعد خطوات؛ تتوقف؛ تستجمع
أنفاسك؛ أجساد من حولك فاحمة السواد؛ يغلب عليها ضمور وقصر؛ أنوف فطساء؛ فتحاتها
واسعة؛ تسحب أكبر قدر من الهواء. تدرك من اليوم الأول أنك بعيداً عن جهاز التكييف؛
تموت باختناق كسمك خارج الماء.

في حديقة الفندق؛ تنشق خضرة
عن سحالي في حجم تماسيح صغيرة؛ ألوانها متداخلة؛ عجيبة؛ لامعة؛ زرقاء وحمراء
وصفراء؛ وبها خطوط سوداء؛ تنظر إليك لحظة بعيون عسلية متسائلة وترعبك فترة؛ ثم
تختفي بين أشجار باسقة.

صراخ وزقزقة وشجار؛ معارك
حامية تأتيك من بين أغصان شجرة قريبة؛ عصافير لها أعشاش مقلوبة؛ تدخل أنثى عشها من
أسفل لتجده محتلا بطائر آخر؛ ويبدأ العراك؛ ضربات بأجنحة وزقزقات متشاجرة؛ ويتخلل
هذا الضجيج دقات ترن من جرس معدني واضحة؛ منتظمة التكرار؛ طائر أسود صغير بذيل
طويل؛ يفتح منقار دقيق ليصدر هذه الرنات.

هنا غابات كثيفة تمتد؛ تحيط
بالمدن؛ تزحف بداخلها؛ تخترق شوارعها؛ أشجارها ضخمة؛ فروعها ممتدة؛ أوراقها عريضة؛
تقاوم ما يفعله البشر؛ تنبثق في كل مكان؛ تصعد فوق بيوت؛ تغطيها؛ تصطدم بشبابيك؛
تعيق أبواب؛ تشق أسفلت طريق؛ تسيطر على كل شئ؛ وتأخذه في حضنها الأخضر.

المعركة لا تهدأ بين
الإنسان والطبيعة.

تقول جوديت أن حجم مبيعات
شركتها من الدواء إلى هذه الدولة يصل إلى مليار فرنك سويسري؛ وأنها أكبر دول
أفريقيا ثراءً وموارداً؛ وغالباً ما تشحن الأدوية الخفيفة بالطائرة؛ أما الثقيلة
كالسوائل في الزجاجات؛ فهى ترسَل بالبحر إلى العاصمة في جنوب البلاد؛ والتي هى
أيضاً ميناء كبير.

يستلفت نظرك في الطرقات
أعداداً لا حصر لها من عجائز ضامرين؛ رجال ونساء؛ أجسادهم سوداء؛ فاحمة؛ ممصوصة؛
جلودهم مكرمشة؛ أعضاؤهم مكشوفة؛ أذرعهم مهدلة؛ يرقدون تحت أشجار كأنهم ينتظرون
الموت.

الأمطار كثيفة؛ غزيرة؛
ونادراً ما تتوقف؛ لكن النشاط لا يهدأ في الأسواق والشوارع الرئيسية؛ هؤلاء
المواطنون الضامرون سيئو التغذية؛ سذج؛ طيبون؛ ليسوا كما يصورهم الرجل الأبيض في
الروايات والأفلام السينمائية؛ حتى القبائل خارج المدن في الغابات والأحراش رجال
مسالمون؛ ليست لديهم نيران عالية متوهجة؛ وضحايا بيضاء مقيدة؛ وهم لا يصرخون حولها
بالرماح على دقات الطبول؛ صور شاذة يغالي في صنعها مخرجو أفلام هوليود؛ ويروج لها
صياد أبيض؛ متوحش.

تنتشر في الشمال حيث
الصحراء قبائل الهلسا؛ وكلهم من المسلمين؛ بينما تتعدد في الجنوب الإستوائي قبائل
زنوج متعددو الديانات والمعتقدات واللغات.

تضيق الدكتورة جوديت بتخلف
السكان؛ بتعدد شكاوي بعض الصيدليات والمستشفيات من أدوية تنتجها شركتها في سويسرا
تسبب بعض وفيات؛ وعندما توفدها الشركة لتقصي الأمور؛ تذهب باحثة خلف أسماء
وعناوين؛ تجوس ضواحي فقيرة؛ وتضرب في غابات؛ لتصل إلى مدن غير قريبة؛ وفي النهاية
تكتب أن الأهالي يتناولون أدوية إنتهت مدة صلاحيتها؛ وتحولت إلى سموم؛ وتختم
تقريرها بأنهم شعب متخلف؛ جاهل؛ يعيش في مرتبة الحيوان.

لم تقل لها بأن المصانع
الأوروبية تتخذ من الدول النامية وخاصة دول أفريقيا مجالاً لتجارب الأدوية؛ ولكنك
تقول بأن المستوردين وأصحاب الصيدليات والأطباء وكلهم من الأجانب هم المسئولون؛
فما ذنب الشعب المسالم؛ المسكين؛ وتشرح لها كيف أن جشع الشركات العالمية هو سبب
تخلف هذا الشعب؛ وغيره من شعوب؛ ولكنها تصر على أن ترى؛ أن الرجل الأبيض متحضر؛
يأت إلى هذه البلاد لإنقاذ أهلها وتعليمهم ومعالجتهم؛ وأن هذه هى الرسالة الحقيقية
للإنسانية والأديان السماوية.

وعلى مشارف غابة قريبة؛
يأبى ماما دوبا إلا أن يشاركك الجلوس على جذع شجرة كبير؛ ويصر على أن يفترش الأرض
وسط أكوام من فاكهة طازجة؛ يرفع إليك رأسه ضاحكاً فتلمع أسنان بيضاء؛ هو يجيد
التعبير عن نفسه بلغة انجليزية؛ ولكن بعض مخارج الألفاظ لا تمر من الحناجر هنا
سليمة؛ واضحة. أنت في ضيافة ماما دوبا؛ هو من قبيلة اليوروبا أكبر قبائل الجنوب؛
كوخه خشبي أقرب إلى أن يكون متجراً سياحياً؛ ولا يبعد كثيراً داخل الغابة؛ يعرفك
بزوجته وأطفاله؛ يقدم لك ثمرة موز كبيرة؛ طويلة؛ صفراء فاتحة؛ لها مذاق بطاطا
مسلوقة؛ يقشر إحدى ثمار الأناناس الخضراء؛ ثم يدق بكعب السكين على ثمرة من جوز
الهند؛ يفتت القشرة الخشبية.

لا يدري كيف يعبر عن فرحته
بزيارتك.

يقوم ماما دوبا ليطرد قرداً
صغيراً من فوق شجرة قريبة؛ يختفي ويعود ليقذفكم بثمار صغيرة جافة؛ تضطر إلى اصطناع
شجاعة؛ فالشجاعة عندك ليست في غياب الخوف؛ بل في اتقانه. عيناك لا تتوقفان عن تفحص
ما حولك من أشجار وأحراش؛ يرعبك أي صوت؛ وترعشك أية حركة؛ يستشعر ماما دوبا ما أنت
فيه من قلق؛ فيخبرك بأن المكان الذي يسكنه الإنسان يبتعد عنه الحيوان؛ ويبدي فرحاً
زائداً؛ لا يخلو من دهشة؛ حين يخبره زميلك في الزيارة؛ بأنك لست من بلاد الرجل
الأبيض؛ وأنك أفريقي مثله؛ ولكنك تسكن الشمال؛ في مصر المحروسة. يهديك دبلة سوداء
رفيعة من شعر فيل؛ وعقداً دقيق الصنع من عظام بيضاء؛ ثم بعض فصوص أحجار جميلة
مجهولة؛ ألوانها عجيبة؛ يثير إعجابك فص صغير لامع؛ عسلي اللون؛ تتماوج فيه خطوط
صفراء دائمة الحركة؛ يشبه الفص عين نمر؛ ويحمل نفس الإسم.

في قلب العاصمة؛ مستنقعات
مجاري نتنة؛ وأكواخ قذرة؛ وأكوام زبالة؛ وعلب صفيح؛ تجلس نسوة محطمات؛ ويلعب أطفال
ممصوصوا الأجساد؛ بارزوا العظام؛ يطل جوع وبؤس من عيونهم؛ ويلتصق ذباب بوجوههم؛
وعلى ناصية بشارع عريض؛ لا يبعد إلا أمتاراً قليلة؛ تنتصب بناية ضخمة؛ حديثة؛
لامعة الزجاج؛ لـ سوبر ماركت يحمل إسم كنجزواي؛ أحد فروع الشركة الشهيرة بانجلترا.

ما إن تقف السيارة حتى
ينحني أسود أنيق؛ يفتح لك الباب؛ هواء مكيف نقي؛ رطب؛ يملأ المكان؛ تشعر أنك على
الفور تدخل مدينة جديدة في بلد جديدة.

الأرض رخام يبرق؛ والفتارين
تلمع؛ الأرفف منسقة؛ حافلة ببضائع؛ ثلاجات عرض مستطيلة تزخر بأنواع لحوم ودجاج
وأسماك؛ معلبات فواكه وخضروات؛ أنواع لا حصر لها من فطائر وتورتات وخبز مغلف؛ دور
مخصص للعب أطفال؛ أفخر ملابس للنساء والرجال؛ قسم خاص بالخمور؛ آخر للكتب؛ أدوات
بحر وغطس واصطياف؛ لوحات؛ تماثيل؛ تحف؛ دور كامل للأثاث؛ وبعد أن تنتهي كل احتياجات
الإنسان؛ ينفرد دور آخر باحتياجات القطط والكلاب؛ آلاف الأنواع من علب الطعام؛
سلاسل وفيونكات وكمامات؛ آسرة صغيرة؛ وأكشاك؛ ألبان؛ أدوية؛ حقن؛ شراب ومقويات؛
كتب في كيف تربي وتأتلف مع القطط والكلاب: فرشات لشعرها؛ كريمات لجلدها؛ لعب
لصغارها؛ منها عظام صغيرة من كاوتشوك لتعض فيها صغار القطط والكلاب؛ لتتعلم كيف
تنمي أسنانها.

المترددون على السوبر ماركت
جاليات أجنبية؛ بيض؛ غرباء؛ أما الوطني الأسود الذي قد تشاهده في الداخل؛ فهو؛ إما
خادم؛ أو حمَّال؛ أو ماسح أحذية؛ أو جامع قمامة؛ أو شحاذ.

الجالية اليهودية هنا
كبيرة؛ موزعة بمدن كبيرة؛ يقدمك إلى بعضها رجل أعمال مصري أمريكي؛ مطابق للمواصفات
العالمية؛ فهو يعاونك في تسويق منتجات لبان شركتك في هذه البلاد؛ وتتخذ من مكتبه
مقراً لك ولاتصالاتك؛ تسكن سبع أسر يهودية في حي الأجانب والسفارات؛ الفيللات
أنيقة؛ والطرقات نظيفة منسقة الأشجار؛ يشغل رجال هذه المجموعة وظائف هامة؛ فمنهم
أطباء ومهندسون ومديرو شركات تنقيب بترول؛ يكونون فيما بينهم وطناً صغيراً قوي
الروابط؛ ويتناوبون التجمع  في بداية كل
يوم سبت عند إحدى الأسر.

 يصر رجل الأعمال على دعوتك وإكرامك؛ تتسابق
زوجته في تجهيز الأطعمة المصرية؛ ملوخية؛ مسقعة؛ كرشة بدمعة؛ وحمص مع فتة كوارع؛
والختام بالرز أبو لبن؛ لا قرابة؛ لا صداقة؛ سوى أنك من ريحة الوطن؛ يغادرك الشعور
بالغربة.

يسألك رجل الأعمال عن
الأحوال والأحداث والسياسة والأسعار؛ يراجع معك أخر ما وصله من أخبار؛ وردود
الأفعال عن سد النهضه على النيل الأزرق؛ وعزل أول رئيس منتخب. لا تدري لماذا تتعمد
الإجابة عن أسئلته بغموض؛ واقتضاب؛ وأحياناً بمعلومات مغلوطة؛ ربما بسبب حس
مخابراتي اكتسبته من قراءاتك لقصص الجاسوسية.

يدعوك إلى قضاء صباح السبت
في النادي الكبير؛ تلتقي هناك بمعظم الأسر اليهودية؛ يرحبون بك؛ وتعود جلسات السمر
والشرب ويتهوَّد المكان.

النادي فاخر؛ أرستقراطي؛
مكيف الصالات؛ جزء نظيف من أرقى بلاد أوروبا؛ الوجوه حولك بيضاء؛ لا يوجد زنجي إلا
جرسون يحضر المشروبات؛ مجتمعان في هذا البلد؛ منفصلان تماماً؛ الفروق بينهما شاسعة؛
رهيبة؛ مجتمع المواطنين؛ حيث يحيا السود في حضيض؛ يفترسهم الجوع والجهل وأعتى
الأمراض؛ ومجتمع غرباء؛ دخيل؛ منعزل؛ يرفل في النعيم والترف والثراء.

تتعرف على مزيد من اليهود
في صالات البلياردو؛ تلتقي بضباط ومهندسين بحريين يعملون في إدارة شئون ميناء بحر
النيل؛ ويشرفون على حركة السفن والملاحة؛ وفي الفندق بصالة الطعام تجد جوديت
متأزمة؛ هى تعتقد أنك بدلت مواعيد حضورك إلى صالة الطعام لتتجنب الإلتقاء بها؛
تقول لك أنك تستطيع أن تدخن وأنت معها حتى لا تضيق بها وبجلستها؛ تحاول أن تخبرها
بأن الأمر غير ذلك.

تعرض عليك مواصلة الجلسة في
غرفتها؛ إن لم تكن معتاداً على النوم بعد الظهر؛ وتقول أنها تريد أن تعطيك بعض
أدوية تتحصن بها من أمراض هذا البلد اللعين.

تفتح جوديت زجاجة نبيذ
فرنسي كانت في حوائجها؛ غرفتها لا تختلف كثيراً عن غرفتك غير أن دورة المياه على
اليسار.

النبيذ أحمر خفيف؛ تحمل
ملامح جوديت بعض سعادة واضطراب؛ تتحرك كثيراً في الغرفة؛ تبدأ الأحاديث في مواضيع
مختلفة لا تواصلها؛ هل ترفع لك درجة التكييف؟ الغرفة شبه معتمة؛ أتت في الصباح من
رحلة مرعبة ضل سائق التاكسي الطريق؛ أو تصنع ذلك خلالها؛ تسألك إن كنت تحب أن تطلب
شيئا من البار؛ هي لا تحب الإغتراب؛ هل جلستك مريحة؟.

تمد يدها خلف السرير لتضغط
على زر؛ فيأت إرسال الفندق لموسيقي راقصة حديثة؛ سريعة الإيقاع؛ لعلها تمهد الجو
كما تفعل أنت؛ تطلب منك أن ترقص معها إن لم يكن لديك ما يمنع.

ترمي بشعرها إلى الخلف؛
تتبادل أمامك بخفة قدميها وذراعيها فيما يشبه الرقص؛ هذه الرقصات الحديثة لا تخضع
لنظام؛ يعتقد كل راقص أنه يأت بحركات رشيقة؛ مقبولة؛ ولكن الحكم يبقي دائماً
للمشاهد.

تنتهي هذه المقطوعة لتلحق
بها أخرى؛ هادئة؛ بطيئة؛ تانجو ناعم؛ رقيق؛ يلتصق بك جسدها الدافئ؛ اللين؛ ويلتف
ذراعك حول خصرها؛ هو احتضان متحرك؛ يلتحم ثدياها الكبيران بصدرك؛ ينفعصان
ويفترشانه على الأخر؛ تتنهد؛ وتركن رأسها فوق كتفك.

لا تدري أنت لماذا تتوقف
قدماك؛ تفك نفسك منها في نعومة؛ تمد يدك إلى كأس نبيذ؛ تصب في جوفك ما تبقى فيه؛
هى في مكانها تنتظر؛ تجد نفسك تبتسم؛ وتخبرها فجأة بأنك مضطر للإنصراف؛ وتأسف
لذلك؛ تغادر الغرفة؛ جوديت واجمة؛ مهدلة الذراعين؛ تنظر إليك في بلاهة؛ تندهش أنت
لهذا التصرف من جانبك؛ أنت لم تفكر فيه؛ لم تمهد له؛ لم تخطر زوجتك على بالك؛
لتتحجج بأنه وفاء؛ تعترف بينك وبين نفسك بأنه سلوك سخيف؛ لماذا قبلت أن تصعد معها
إلى الغرفة؟ ولماذا بذلت محاولات كثيرة سابقة للتعرف بها؟ ولماذا تهرب الآن؟.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *