الفصل الأول من رواية (في سبيل الحرية) تأليف الرئيس (جمال عبد الناصر)


(.. يوم لا ينسى؛ هذا اليوم العابس أوله؛ الباسم
أخره؛ في عام 1807؛ قال الإنجليز”هذه مصر؛ إستقلت عن الطرق وحكمت نفسها؛ وهي
على هذا لقمة سائغة تمضغ وتبتلع؛ إذ ماذا تستطيع ملايينها الثلاثة أن تصنع أمام
أسطول بريطانيا وجيشها المدرب العظيم ومدافعها وقنابلها”؟!!.

.. قال الإنجليز “هذه هي الفرصة قد سنحت لتحقيق
حلم قديم؛ وأمل طالما جاش بنفوس الإنجليز القدماء؛ وما هي إلا أسابيع حتى رست على
شواطئ الأسكندرية  أساطيلهم؛ ودوت القذيفة
الأولى من قذائف البحرية البريطانية؛ وهم يظنون أنها مسمار كبير في نعش الحرية
والكرامة المصرية؛ وعما قليل سوف تكفن هذه الحرية وتوسد في قبرها وينهال عليها
التراب.

.. أصبحت الأسكندرية ذات الماضي الحافل؛ تتقد
ناراً؛ وتشتعل ناراً؛ رأى المصريون على ضوءها أفظع صور الظلم والجشع والطغيان.

.. وهام أهل الأسكندرية على وجوههم وخرجوا
بأطفالهم ونسائهم لا يعرفون مصائرهم؛ وبيوتهم من ورائهم تعصف بها عواصف الجحيم.

.. نار في كل مكان؛
نار في المدينة / ونار في القلوب.

.. وكان اليوم العابس
هو 16 مارس 1807.

.. ولم تكد تغيب شمس هذا اليوم؛ ويحتجب قرصها
الملتهب وراء اليم؛ حتى سطر القدر بيده على صفحة الأحداث أغرب الأهوال
والمصادفات.. وكأن التاريخ الذي يحمله ذلك اليوم هو أول مصادفة غريبة؛ ففي نفس
التاريخ 16 مارس ولكن من عام 1803 سبق أن جلاء الإنجليز عن حصون الأسكندرية
وقلاعها وسلموها كاملة إلى”خورشيد” باشا؛ حاكم الثغرا.

.. كانوا قد أتوا عام 1801 ليعاونوا الأتراك في
طرد الفرنسيين وجلاء الفرنسيون في ذلك العام؛ ولكن لم يجل الإنجليز إلا بعد عامين
كاملين.

.. كانوا يأملون أن يطول بهم المقام أبد الدهر؛
ولكن سارت الحوادث على غير ما يشتهون؛ فكانوا أن حملوا عصاهم على كاهلهم ورحلوا عن
البلاد.

.. واليوم يعودون وفي نفس التاريخ! بعد أربعة
أعوام كاملة لكي يحققوا الحلم الذي لا يفارق أعين المستعمرين القدامى.

.. وجلس الجنرال “فريزر” –قائد الحملة-
في غرفة القيادة بسفينته تحت صورة الأسد البريطاني؛ وراح يفكر في هذا الإتفاق
التاريخي الغريب! ولم يدر الجنرال أيتفاءل بهذه المصادفة الغريبة؛ ام يتطير بها؟!
والحقيقة أنه كان يحس -بينه وبين نفسه- بالضيق والتشاؤم؛ فمنذ أن كُلِفْ بقيادة
الحملة والنذر السيئة تأبى إلا أن تبلغه؛ فهو يتذكر كيف هبت عليه عاصفة هوجاء؛
شطرت حملته نصفين في عرض البحر؛ في اليوم الذي غادر فيه صقلية إلى الأسكندرية؛
ولقد تطير الرجل منذ أول وهلة بهذه الريح العاتية؛ التي فصلت باقي سفنه عنه؛
واليوم جاءه رسول ينبئه بوفاة “محمد الألفي” زعيم المماليك وصنيعة
الإنجليز؛ وإغتم “فريزر” لذلك غماً شديداً؛ وكاد يدركه الخبال من فرط
الصدمة؛ فقد كان يعقد رجاء كبيراً على الألفي وجنوده؛ فمنذ برهة قصيرة كان يتحدث
مع قادة الحملة ويذكر لهم أن للحملة بقية كبيرة في البر؛ وكان يقصد بهذا أن المعنى
جيش الألفي؛ إذ كانت خطة الإنجليز أن يتقدم الألفي بجيشه أمامهم؛ يمهد لهم
الإستيلاء على القطر؛ وهم يشدون أزره من الخلف؛ وبذلك يتلقى المماليك أثقل صدمة؛
ويقع على عاتقهم أفدح الخسائر؛ وعندئذ يسهل على الإنجليز إزدراد اللقمة السائغة؛
وحينما يتم لهم النصر الزائف؛ لا يفتهم أن يتحدثوا طويلاً عن التضحية بأخر رجل
لديهم؛ من رجال المماليك!.

.. ومن أجل ذلك كاد “فريزر” يُجَنْ وهو
يستمع إلى النبأ المشئوم.. وسأل الرسول متجهماً:

-مات الألفي.. كيف مات؟!

-مات وحده يا سيدي.

.. فغضب “فريزر”
وصرخ:

-هذا الخائم من أمره أن يموت الآن؟!!.

.. وتعجب الرسول من أمر الرجل؛ وراح يحكي له كيف
إنتظرهم “الألفي” طويلاً بدمنهور فلما تأخر مجيئهم؛ رحل عنهم إلى
الجيزة؛ فأصابته الحمى الخبيثة وهناك وافته منيته؛ وتابع “فريزر” حديثه:

-لقد دفعنا للألفي كثيراً.. والآن يتركنا ويموت..
على أية حال نحن على أتم الإستعداد لأن ندفع لغيره.

.. كانت عقيدة الإنجليز أن الذهب يشتري كل الذمم؛
لقد بيع “الألفي” وهو مملوك صغير إلى “مراد بك” بألف إردب من
القمح؛ ولذلك سمي بالألفي؛ وقد كان كل حاكم من حكام مصر العثمانيين والمماليك صورة
من “محمد الألفي” في نظر الإنجليز؛ يباع في صغره بالقمح؛ ويشترى في كبره
بالذهب!.

.. ولقد نجحت عقيدتهم الملتوية؛ وأفلحت مع خائن
آخر هو “أمين أغا” حاكم الأسكندرية؛ واشتروا ذمته بالأصفر الرنان؛ فلم
يلبث أن سلم الثغر الآمن؛ وعندما فتحت أبواب السفن أمام جنود الإنجليز إندفعوا
يهبطون فوق الدرجة الممدودة إلى البر في إنطلاق وجنون.. وكانوا أشبه بالمارد
الحبيس الذي إنطلق من سجن ضيق إلى فضاء رحيب؛ وراحت أقدامهم تدنس الثرى الطيب.

.. وسلم الخائن “أمين أغا” جنود الحامية
للعدو؛ فبعث بهم أسرى إلى “مالطة”؛ ومع ذلك فقد بقى هناك نفر من
المجهولين الأحرار ممن رفضت نفوسهم الضيم وإستعصت على الهزيمة؛ فأخذوا يتربصون
بالعدو الدوائر ليذيقوه من مرارة كأسه وإستطاعت جماعة منهم أن تحرق مركبين كبيرين
من سفن “فريزر”.

.. وكان الليل ساجياً هادئاً عندما صعد لهم
المركبين إلى أجواء السماء وأحس “فريزر” بغصة في حلقه؛ وقد وقعت عيناه
على هذا المشهد من خلال الكرة الصغيرة في غرفته وجمدت يده على كأس الخمر التي يشرب
نخبها إحتفالاً بنصره الغادر؛ الرخيص.

.. وكان يجلس قبالته الأميرال “لوس”
قائد البحرية وقد ملكته نشوة الخمر والزهو معاً؛ حين نجحت مدفعيته في إصابة أكبر
أبراج الإسكندرية عند الغروب؛ كم كان منظر المركبين المحترقين أليماً ومؤثراً في
نفوسهم المتبلدة؛ أما الحريق الذي شب في البرج الكبير؛ وفي دور الإسكندرية
الوادعة؛ فكان مثاراً لغبطتهم وهنائهم.

.. وبدا الشاطئ المقدس من بعيد صامتاً؛ رهيباً؛
تهدر الأمواج عند أقدامه؛ وترتفع النيران فوق عامته… ولاحظ القادة الجالسون أمام
الجنرال ما عليه كبيرهم هذا من هم وتوجس!!… وتكلم “فريزر” وخرج صوته
ضعيفاً؛ متهدجاً؛ من بين شفتيه:

-لا أدري ماذا يخبئ لنا القدر على أرض الفراعنة؛
لقد مات الألفي الذي كنا نعتمد عليه وعلى رجاله وحرق المصريون سفينتين من سفننا
وأبطأ عنا شطر الحملة الثاني؛ وأظن أن عددنا ليس كافياً إزاء المقاومات الشعبية
المتوقعة من الأهالي المصريين.

.. وإستطرد الجنوال حديثه وهو يدق المنضدة بيده
مؤكداً أهمية قوله:

-لكننا سنسعي جاهدين لتحقيق مهمتنا بكل الأساليب
وبكافة الحيل؛ فمصر تعني لنا ثلاثة أمور: الهرم؛ والنيل؛ والبحر الأحمر؛ ويعني
الهرم التحف والآثار والذهب؛ ويعني النيل الخير والرفاهية؛ أما البحر الأحمر فإننا
عازمون على إخضاعه للتاج البريطاني؛ فهذا البحر ما هو إلا تتمة لنهر التايمز إلى
الهند الخصيبة؛ ومن أجل ذلك دمرنا أسطول نابليون في “أبي قير” منذ تسعة
أعوام؛ ومن أجل ذلك؛ نزلنا بجيوشنا في مصر منذ ستة أعوام؛ ومن أجل ذلك نعود إليها
اليوم؛ فهي نار في القلوب..)!!!.

  من كتابي القادم “جبروت الطاغية وطغيان الحاشية”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top