يفزع ولدها هجع العين؛ جفل
البدن؛ تفوح رائحة انفعاله كرائحة البنزين؛ تتفافز الكلمات من ثغره كنجوم مشتغلة:
ما هذا الصوت يا أمي؟.
تتلفت في ذهول مشوب بذعر؛ تنظر صوب السماء
الكالحة؛ وأنامل الولد تكاد تنحشر في عينيها: والبط أيضاً؛ ماذا به يا أمي؟.
يفزعها
مرآى أسراب البط المتراصة؛ تمتطي الفزع؛ تتنفس البهوت؛ تلفظ بحر النيل؛ تطيش راكضه
باتجاه الدور الطينية؛ أكواخ الصيادين؛ تغوص في الحقول؛ المزارع؛ البساتين؛ المقابر؛
يعصف بها أزيز الطائرات القريبة جدا من سطح الأرض؛ كاسحة؛ مندفعة؛ مخلفة تمدد
السكون؛ صمت المقاتلين؛ عبارة الإنكسار: كنا ننتظرهم من الشرق؛ فباغتونا من الشمال.
عبارة تتعلق قرطاً لا ينزعه الزمن؛ تصير إرثاً نحمله؛ ندمنه؛ ولا نشفى منه.
الملازم
أول محمد عبد المولى
العقيد
سعد سويدان مصطفى
الجندي
وردان فتوح عطيه
ثلاث أسماء في ثلاث صناديق؛ تتقدم المصلين في صحن
مسجد القرية؛ حزن يتقد في القلوب.
هى
لا تنسى تلك اللحظة.
في
الطريق إلى المقابر؛ الخطو بطئ؛ الأكتاف متلاصقة؛ الأرجل متثاقلة؛ الهموم تلال.
يقول
بيان عسكري: أبطال ثلاثة أستشهدوا أثناء عملية جريئة على الضفة الشرقية للقناة.
ترتدي
الحداد كآلاف النساء في المدن والقري والنجوع؛ مات الأزواج؛ والأشقاء؛ والأبناء؛
ويفزع اليتامي الصغار من النوم؛ يسألون عن عودة الأباء؛ حزن يعتصر قلبها؛ وقلوب
الأمهات والأخوات عمن مات؛ ومن لم يعد؛ وينتظرن ثكلى خلف الأبواب والنوافذ
والمشربيات؛ وعلي الجانب الأخر في عاصمة الأسياد؛ تنطلق النكات وتزغرد الضحكات في
المسارح والكازينوهات والملاهي: مسرح الزمالك بجوار نادي الضباط يقدم مسرحية طبق
سلطة؛ ومسرح ميامي الشتوي يعرض الثعلب فات.
تختنق
الشوارع بالإزدحام أمام مسرح عمر الخيام وهوسابير والريحاني؛ تفرغ تاكسيات عائلات
المشاهدين؛ وتركن سيارات بجلابيب بيضاء؛ وتستطيل طوابير حاجزي التذاكر؛ ويبحث
الجميع عن ضحكة ورقصة ومتعة.
تزدحم
القطارات؛ وتختنق الأتوبيسات؛ وتمتلئ اللوريات والتاكسيات بألوف الأسر؛ تفر من
جحيم موت خط القنال إلى المدن والقرى البعيدة؛ يرقدون تحت صقيع الشتاء في الطرقات
والخرائب والمقابر؛ ويفترشون ساحات المدارس والمساجد والكنائس والأديرة.
لقد اشتدت حرب الإستنزاف.
مدافع
ثقيلة تدك مدن القناة؛ بضرب متواصل لا يتوقف؛ تتحول بور توفيق إلى أنقاض؛ مدينة؛
خرائب وأطلال؛ قذائف تصفر كل لحظة في الطرقات؛ دوي انفجارات وانهيارات ليل ونهار؛
محمد حمام ينشد بكلمات الأبنودي: يا بيوت السويس؛ يا بيوت مدينتي؛ أستشهد تحتك؛
وتعيشي انتي.
سحب
غبار؛ وتداعي مبان؛ وتهشيم زجاج؛ صراخ من بقى من أحياء؛ إظلام تام على طول الجبهة؛
ومدينة الأسياد مسرورة؛ تتحزم بالأضواء؛ ويزدحم شارع الهرم بجلابيب بيضاء؛ ويصطخب
بدقات طبول ومزمار؛ وهزات بطون؛ وضحكات سكارى؛ وفرقعة زجاجات. هم ينعمون بالنساء؛
وبالصخب؛ ويسكرون؛ وأولادنا في الجبهة يقاتلون؛ وينتحرون.
لقد
آب أهل النفط إلى دول الثراء والبرجوازية؛ وانحصرت مصر في طبقة الخدم والعمال؛
تقدم لهم الشغالة تخدم في بيوتهم؛ والخوجا يعلم أولادهم؛ والمحاسب يمسك دفاترهم؛
واللعوب ترضي غرائزهم؛ حتى الجندي الذي يحارب قضيتهم؛ ويموت نيابة عنهم؛ ومن أسف
أنك إذا ظهرت بملابس بيضاء وعقال في أي شارع؛ انفتحت لك المسالك؛ وحملت عنك
الحقائب؛ ورحبت بك الشقق المفروشة والمسارح والكباريهات والحانات؛ تجتاز بأموالك
كل العقبات: بوابي العمارات؛ الشغالات؛ الخدم؛ الأخلاق؛ القيم؛ العادات؛ القوانين.
تطرق شقتك العاهرات وتعربد وتصخب كيفما تشاء.
خط
المياه الرفيع الموصل بين البحرين يشتعل ليل نهار بصواريخ عابرة؛ وقنابل.
تكثف
الطائرات طلعاتها والمدافع قنابلها وطلقاتها؛ المصريون في حالة جنون؛ يشاهدون
العدو يشيد التحصينات؛ ويبني المنشآت على الضفة الغربية للقناة؛ وكإنما ينوي
البقاء إلى الأبد.
نعلم
من بعض الضباط بأن مدافع أمريكية رهيبة؛ ليس لها مثيل في العالم؛ تربض في عيون
موسي؛ تظهر إلكترونياً؛ لتظل تضرب أربع وعشرين ساعة في اليوم دون توقف؛ محصنة
تحصيناً هائلاً؛ لا ينال منه أي هجوم.
يثور
الوله عوضين ويزعق وسط أصدقائه في مقهى القرية: الحرب سلاح؛ لماذا لا تعطينا روسيا
مدافع من هذا النوع لندك تل أبيب كما يفعلون معنا؟.
الوقت
صباح؛ واليوم يوم جمعه؛ الرواد صامتون؛ ينطلق عوضين: وإن لم يكن عندهم ما يماثلها؛
ألا يوجد لديهم ما يوقف المدافع؛ تمد أمريكا إسرائيل بأحدث الأسلحة؛ والإثنان يعملان
على تثبيت الإحتـلال وتجمبد الموقف؛ وضرب الأهالي والسكان.
يهب
الغفير سمعان واقفاً: لابد من حرب شاملة؛ حرب الإستنزاف لا تزيد عن مناوشات.
مصريون
يشيدون دون توقف قواعد الصواريخ في جحيم
قنابل الطائرات المغيرة؛ السماء الحالكة تتمزق بصراخ القنابل؛ وقصف المدافع؛
تتساقط صفوف؛ تتفتت أجساد؛ تنتصب ألوف؛ خلايا من نحل شغيلة؛ عزَّل دون سلاح؛ ينهمر
فوقهم الموت؛ وتنفجر من حولهم الأرض.
قوات
الدفاع الجوي تقاوم بوحشية الإحتضار؛ أسراب فانتوم وسكاي هوك منقضة بالعشرات؛
تتصاعد الصواريخ تتوالي؛ تتقد مدافع؛ تلتهب؛ تسخن مواسير؛ لا انتظار؛ ويدعوك أكبر
استعراض غنائي راقص على مسرح متروبول؛ أشهر راقصات ومطربين ومطربات؛ مسرح وكازينو
شهرزاد يبدأ عرض برنامج شيق؛ ومفاجآت.
شمس
تغيب بلهاء؛ شفق جريح في السماء؛ سحاب بطئ؛ كئيب؛ يتوالى عبور الجنود ؛ مجموعة
إبراهيم رفاعي؛ يتساقط فدائيون؛ وتتعجن الرمال الصفراء بالدماء؛ وتتناثر أشلاء؛
وفي الأزقة والحواري والدروب؛ في قرى الريف؛ وعلى كل أرض؛ مآتم وأحزان؛ صراخ
وآلام؛ قلوب تعتصرها قبضة الهزيمة والإندحار؛ وينز بها جرح الخيبة والإنكسار ولا
يزال سؤال كبير يلح: أين تذهب هذا المساء؟. تقدم مدينة الملاهي أحدث الألعاب؛
كازينو عماد الدين يقدم باليه أفريقي؛ وأوبرج الأهرام مكيف الهواء؛ وفي صحاري سيتي
رقصة زار ومزمار؛ ملكة استعراض بميدان الأوبرا تقدم نجوم الموسم؛ ديكور عالمي؛
شيشه عجمي؛ كباب؛ رستوران؛ بادر بحجز الموائد.ولكن سامقة القرية تقف كجزع نخلة
أمام قبر زوجها ملازم أول محمد عبد المولى؛ يلفها الفراغ والصمت والآسى؛ تتمتم
بالفاتحة؛ المعوزتين؛ تحتضن ولدها؛ تأخذ عهداً على نفسها؛ أن تتعهده كما تتعهد
الأرض العشبة الهشة؛ الطرية؛ وأمام الباخرة البيضاء المصفرة بصفرة الكفن يطير
العصفور الذي كان هنا وهناك من بين كفيها المطويتين على صدرها الضامر؛ تبدوان
كقطعتي حطب مشققتين؛ وعبر أخاديد وجهها التي صنعتها سنون لا تحصي من الكد والعرق؛
تنساب الدموع: مع السلامه يا ابني؛ خذ بالك من روحك.
-حاضر
يا أمي.
ثم
في انفعاله: لا إله إلا الله.
وهي تجهش: محمد رسول الله.
يمضي الولد هجع العين؛ جفل البدن؛
تفوح رائحة انفعاله كرائحة البنزين؛ يحلم بالشبكة؛ المهر؛ الشوار؛ بعدما أنهكه الضيق؛ قلة
الحيلة؛ نزبف الآلم؛ طول المشوار؛ وفي يوم العودة بالتمام والكمال تقبل أمه ضامرة؛
كشئ ينبثق من رحِم الأرض؛ تصعد كجزع نخلة مائل؛ ترتقي مرفأ الميناء؛ يشغي بالوجوه
المكفهرة؛ زخات المطر؛ هبات الهواء؛ عواديد النسوة؛ همهمات الشيوخ والقساوسة؛ كالجراد
بين الناس؛ يحاولون تهدئة النفوس؛ دمدمات المحامون الباحثون عن أفضل فرصة لاستثمار
الكارثة؛ يسعون لجمع التوكيلات؛ صرخة من هنا؛ ونحيب من هناك؛ نشيج مكتوم في كل
مكان؛ صوت جرئ يسأل عن موعد إذاعة بيان الأسماء؛ حالات إغماء يهرع إليها رجال
الإسعاف؛ أفق غائم؛ مهلهل؛ زعيق طيور نورس؛ باخرة بيضاء؛ مصفرة بصفرة الكفن؛ في
انتظار عبارة تبرير من عدة كلمات؛ تتعلق قرطا لا ينزعه الزمن؛ تصير إرثا نحمله؛
ندمنه؛ ولا نشفى منه.