حينمت عزمت على التطوع
في الجيش، لم يحاول أبي ولا أمي الوقوف في طريقي، ولكن أمي بكت كثيراً، ولم أفهم ماذا
يعني هذا العمل منها. ولكني الآن أتفهمه تماماً، لقد كنت في نظرها رجُلاً بمعنى الكلمة،
وقالت عني بالرغم من ذلك “أحمق”. ربما لآنها كانت تشعر، وبحكمتها البليغة،
أن القطط الآليفة لا تصنع النصر، ومن لا يصنع النصر، لا يصنع السلام.. وفي بداية ليل
بطئ الإنحسار، يصل قطار الشمال الحربي بالعائدين من جحيم النار والدم، والتيه والفقد.
ينسل ويتسلل كلص خائف من اكتشافه. نافثاً حمم أنفاسه، وهو يجثو بجانب رصيف محطة قطار
مدينة الأسياد، في الوقت الذي يهبط فيه من القطار العشرات من الجنود والضباط المصريين
بعيون ذاهلة دامعة، يغادرون كأشباح الموتى ذلك القطار المحظوظ الذي لم تنقره دانة مدفع
من دبابة إسرائيلية تتربص به على رمال الشاطئ الشرقي من قناة السويس. ولكن. لماذا تفعل،
وكل من في القطار مُجرد طيور جريحة كانت تغني بأعذب الألحان على شاطئ الحياة، ثم صمتت
فجأة، وسقطت في بؤرة التيه والنسيان، ومنها هذا الشاب النحيل، طويل القامة، ممصوص الوجه،
غزير شعر الرأس والذقن، والذي يهبط الآن كالمظلة من فوق سطح ذلك القطار الهامد بقدمين
حافيتين، وعينين واسعتين دامعتين ذائغتين، وبزة ميري ممزقة، تكشف عن لحم ساعديه وساقيه؟.
فمن هو ذلك الشاب الوحيد محنى الرأس والظهر؟. أأنا المهزوم في الحرب؟. أم شبحي المقتول
في الأسر وصحراء التيه والفقد؟. وعلى أية حال. هو أمر لا يعنيني بشئ الآن، وربما لا
يعنيكم، أو يعني أحداً ممن أعرفه،