اليوم هو غسيل المواعين، وصُنع وجبة الغداء، واجب أقدمه للمرة الأولى، فاتجهت (بونى
وهمود) إلى المطبخ، وأنتهيت من (دعك) المواعين بالرمال وشطفها بالماء، ورصها في
أماكنها، وبعدئذ، بدأت في تقشير البطاطس، وتقطيع رءوس البصل بالسكين، وفتح علبة
صلصة، وبعد قليل، أخذ يتصاعد البخار من الوعاء إلى السقف الأسود. ذرات سوداء تساقطت
في الوعاء، وصنعت طبقة معتمة فوق سطح الحساء، فرحت أنتزعها بيد المغرفة، لكنها
عادت لتسقط، فأنتزعتها، فعادت، إلى أن نجحت في نزعها تماماً، إلا ذرات قليلة سوداء،
ظلت طافية فوق السطح كالذباب الميت، فأنتبهت (أخيراً) إلى ضرورة وضع غطاء الوعاء، وأنا
ألتفت يمنة ويسرة، وأهز رأسي بابتسامة خجلة!.
إنتهيت
من صنع الوجبة، وعند عودتي، أبصرت خلف التبة فتاة ممشوقة، وافرة القد، طويلة ذلك
الطول المعهود في البادية، وما لبثت أن كشفت غطاء أسود عن وجهها، الفتاة لها وجه
منحوت القسمات، أبيض، بارع الحُسن والجمال، يميزه جبين عال، وبشرة لامعة، ووشم على
الشفة السفلى، ويبدو بالحناء خضبت أصابع يديها، وعلقت في أذنيها أقراطاً، وفي عنقها
قلادة من العقيق، وارتدت ثوباً زاهي الألوان، تزين حواشيه خيوط الفضة، وتتراقص
الفراشات عليه، تاركة الوقوف على أزهار الوادي. فرحت أفكر (يا إله السماوات
والأرض، ما هذه الفتاة، وما هذا الثوب المبهر، العجيب، المسحور؟!).
الفتاه
جمالها باهر، كجمال الأميرات في حواديت الأجداد والجدات، بجسم يشبه جداول الماء،
عندما تتثنى كلهب النار، ولكن، كان من العجيب أن يبدو جمال الفتاة كجمال التصاوير،
حياة بلا روح!.
أجفلت
من المشهد الضبابي المفاجئ، وكأن الزمن قد توقف، أو كأن روح العالم تجلت بكل
عنفوانها أمام عينيّ!.
جلست
الفتاة على صخرة كبيرة وثمة مجموعة من الأغنام والماعز تتناثر هنا وهناك كحبات
مسبحة جدتي، تتشمم خضرة قليلة، وقد بدأت الفتاة تدعوني بإشارة من ذراعها البض
للهبوط إليها!. فوسعت من عيني، وتلاحقت أنفاسي، وجبت ببصري الأرجاء، ولم أصدق ما
أرى. ولكني أدركت (عندما رأيت عينا الفتاة السوداوان، الواسعتان كعيون الظباء،
وشفتاها الورديتان، المكتنزتان، اللتان تترددا بين الإبتسام والسكون)، أعمق جزء
وأحكمه من اللغة التي يتكلمها العالم، والتي تواصل كُل المخلوقات (على سطح الأرض)
الإصغاء إليها بقلبها، ألا وهى لُغة الرغبة الخالصة، ذلك الذئب الأسود الذي يعوي ليل
نهار أمام باب كل دار، فيوقظ نداء الحياة قوياً، هادراً، يسري مع الدم في العروق.
إبتسمت
الفتاة ابتسامة ترُد الروح، وتوقظ لغة الرغبة دونما أي شرح، ومتى كانت الرغبة
تحتاج إلى شرح كي تواصل طريقها؟!.
قلت
لنفسي (هذه المرة لا تجعل لترددك مكان، هى فرصة)… ولكن، أية فُرصة ونار حديث
الصول (مصطفى) عن النقطة التي قضت نحبها بسبب أمر شبيه، لم تبرُد بعد؟!.
الفتاة
لم تكف عن دعوتها المُغرية، وها هى تكشف عن لحم ساقيها، اللحم مرمري شهي، طازج،
وأنا جندي وحيد في عراء سيناء، فما العمل إذاً؟! هل أستجيب لها، أم لا؟!
(أعلم أنه إن استجبت، فهو الجنون بعينه، وإن لم أستجب،
فالجنون ربما يكون أشد، ولكن، كيف تكون صحبة كل هذا الجمال جنون، كيف؟! إذاً، فلأهبط
إلى فاتنتي وليكُن ما يكون، تصحبني بندقيتي؟! ولكن… أين هى البندقية؟! إنها نائمة
الآن في حضن السلاحليك*، ومفتاحه مع زميلي (عيّد) كبير المراقبين؟! وعلى أية حال،
لماذا البندقية؟! هل هى حرب؟! وما الذي أخشى منه، وأنا بصحبة فتاة؟!).×
الفتاة تعاود
التغطية، وتلوح بذراعها، ووهج شمس خافت يمنح الجو بعض الدفء. وفجأة، تمسد الفتاة
ثدييها المتكورين، العاريين، الللينين، صدرها صغير، تغطيه مرة أخرى، ثم تكشف عن
ساقيها بانفراجة مهولة، ومعها تولد (رغماً عني) رغبة أسفل خاصرتي، تُجبرني على اشتهاء
كل ساق على حدة، ولمَ لا؟! وكل ساق تتشرب الضوء المتساقط عليها، والمتوهج بنار
بيضاء؟!، فترغمني الرغبة على التقاط ذبذبات وإرسال ذبذبات، ولما لم لم تصدُر مني
أية إشارة للفتاة، تعبس بوجهها، ثم تومئ برأسها، وتختفي بأغنامها خلف الصخور، حتى
الخُضرة القليلة التي كانت تتشم وجه الأرض تصير أثراً بعد عين، فأروح أسير (على
غير هُدى) لبعض الوقت، بدون أن يغيب عن بصري مكان الفتاة، وفي طريق عودتي أعثر على
قوقعة، فأعرف أن تلك الصحراء من حولي كانت في عصر ما بحراً محيط، وثمة عدة أبيات
للمتنبي تتردد برأسي:
نضت عنها القميص لصَـب ماء
فورد وجهها فرط الحـياء
فلما قضت وطراً
وهمَّت إلى أخذ الرداء
رأت شخص الرقيب على التداني
فأسبلت الظلام على الضياء
فكرت في
عدم إخبار أحد من زملائي بامر فتاة الوادي الشبحية، فهُم بالتأكيد سوف يتهمونني
بالجنون، وتخيُل أشياء لا وجود لها!. وها هو البرد قد بدا مُضاعفا، لا يترُك
مكاناً للتمدُد والإنطلاق، ومن جديد، يباغتني مشهد فتاة خلف التبة، وكان صوت
الراديو بيد زميلي (عمَّار) المراقب والملقب بـ(صاحب الراديو) يمنح المبيت ونساً
كافياً، وفجأة، دهمتني رغبة طارئة للتحلُل من عهدي بعدم البوح بسر الفتاة، فهو حق
زملائي علىّ، وكي أقطع الشك باليقين، وأجيب عن سؤالي المراود، الملح (هل أنا في
الكابوس، أم في الحلم، أم في كليهما معاً؟!): من رأى منكُم فتاة ترعى الغنم خلف
التبة؟!.
يفغر
الجميع أفواهم، وتتعلق نظراتهم بي، كأن الدهشة ثبتتها في محاجرها، وفي صوت واحد
ممسوس، ومغموس برنة ضحكات مرتعشة: أظهرت لَك؟!.
أجبت بفزع
حقيقي: مَنْ؟!.
-الفتاة؟!.
-أتقصدون
أنهااا،؟!.
يؤرجح زميلي
(شلبي) المراقب، والملقب بجامع الحطب رأسه: نعم، نقصد أنهاااا!. وفي ثانية تزيغ عيني،
ثم أتجرع من قلة الماء، وبعدئذ أنهض وأنا أشعُر بزمتة المغيب المشبعة ببرد ثقيل، ولم
أتوانى عن النظر من نافذة المبيت على خلف التبة، فوجدت التباب القزمية خالية ورابضة
وصامتة كصمت القبور. تلك المقابر القريبة من الموقع، فاستلقيت على سريري، فيما
يشبه الإغماء!.