متى ظهرت فتنة خلق القرآن؟
متى ظهرت فتنة خلق القرآن؟.. إن علم
الفلسفة، أو العلوم المحيطة به، مثل علم المنطق على سبيل المثال، عندما تتم
دراستها بعمق وحب ورغبة، وليس مجرد دراسة أكاديمية، تؤدي بك إلى شئ من اثنين، لا
ثالث لهما، إما أنها تقربك من الله، ومن الدين، وتقوم بإفهامك ما هو السبب الحقيقي
الذي خلقنا من أجله، وإما تبعدك عن الله، وتؤدي بك للكفر والعياذ بالله. وملخص علىم
الفلسفة، وكل العلوم التي تدور في كنفه، كعلم المنطق مثلاً، هى أنها تبني لك
مقدمات، تؤدي في النهاية لنتائج، وفي تلك الحالة يكون النقاش بيننا وبين بعضنا،
ليس فقط في النتائج، بل كذلك في المقدمات التي قامت بالوصول بنا لتلك النتائج،
وإلى هنا لا توجد مشكلة في علم الفلسفة، والعلوم التي تدور في فلكه، ولكن المشكلة
الحقيقية تبدأ حين تحويل المقدمات إلى حقائق ومسلمات، واعتبارها غير قابلة للنقاش،
ومفروضة على الكل، وفي تلك الحالة يصبح على الفلسفة وأولاده إن صح التعبير، شئ
خطير ومفزع يهدد حياة الإنسان. ومن هنا لا يجب لأي مقدمات، ما دام تؤدي لنتائج، أن
نسلم بأنها مسلمات وحقائق بعيدة عن المناقشة والجدال فيها، والأخذ والرد عليها،
والتشكيك فيها، فالشك يؤدي إلى اليقين فيما بعد.
فتنة خلق القرأن:
كانت أشهر بداية لفتنة خلق القرآن، كانت
مع المسيحية، وهى الديانة القائمة على الفلسفة الإغريقية، وبتعبير أدق
“الفلسفة الهليليستية” وفرق كبير جداً بين الفلسفتين، فالدين المسيحي في
صورته الجديدة هو عبارة عن دين فلسفي، قائم على مزج الفلسفة الإغريقية، بفلسفة
الشرق الأدنى القديم، وهذا الدمج أدى في النهاية لظهور الديانة المسيحية في صورتها
الجديدة، أي أن مشكلة فتنة خلق القرآن، كانت من خلال نقاشات مع نالس دينهم قائم
على الفلسفة، وكانت البداية الأشهر لتلك الفتنة مع واحد إسمه “يوحنا
الدمشقي” وقد كان من أسرة مسيحية خالصة، وكانت تلك الأسرة مقيمة في بلاد
الشام، أو تحديداً في “دمشق” عاصمة “سوريا”، وقبل الفتح
الإسلامي لبلاد الشام، كان “يوحنا الدمشقي” مسئول عن الجباية المالية في
مدينة “دمشق”، أيام سيطرة البيزنطيين على منطقة الشام كلها، فلما وصل
الإسلام إلى بلاد الشام، إستمر “يوحنا الدمشقي” مسئولاً عن جباية
الأموال، ولكن هذه المرة في الشرق الأوسط كله، أو في العالم الإسلامي تحت القيادة
الجديدة للدولة الأموية، ومن بعد “يوحنا الدمشقي” أبوه تولى نفس المنصب،
فلما مات، تولى “يوحنا الدمشقي” مرة أخرى نفس المنصب، فعمل في البلاط
الأموي، وحضر جلسات المناقشات الفلسفية التي كانت في ذلك الوقت منتشرة بكثرة في
البلاط الأموي|، بل وفي معظم الدول الإسلامية في تلك الفترة، مناقشات ومناظرات
فلسفسة، فأثار “يوحنا الدمشقي” بفطنته مشكلة خلق القرآن، وأظهرها بشكل
كبير.
فكرة يوحنا الدمشقي:
كانت فكرة “يوحنا الدمشقي”
قائمة على رؤية المسلمين لسيدنا “عيسى” عليه السلام، فهو يقول ببساطة
شديدة عن فكرته “إن المسلمين يعتقدون ويعتبروا أن عيسى عليه السلام مخلوق،
ونبي من الأنبياء، وبشر، بخلاف المسيحيين، وتقولون بأن عيسى كلمة الله، كما تقولون
بأن القرآن كلمة الله، فالنتيجة التي تترتب على ذلك، أن القرآن هو أيضاً مخلوق من
الله تماماً كعيسى ابن مريم، وإن سلمتم بهذا، فنحن معكم، وإن لم تسلموا بهذا، فهيا
انتقلوا لجانبنا وتعترفوا بأن القرآن ليس مخلوقاً، وأنه كلام الله، ومن الله،
وعليه يكون عيسى عليه السلام هو كلمة الله، وهو جزء من الله”.
وهذا المفهوم الذي تحدث به “يوحنا
الدمشقي” هو الذي كان سائداً في الديانة المسيحية المطعمة بالشق الفلسفي،
والذي عبر عنه “يوحنا الدمشق” خلال مناقشاته الفلسفية في البلاد الأموي.
ومن هنا حدثت المشكلة الفكرية في نهاية الدولة الأموية، ومن ساعتها انتشرت أكثر
فكرة خلق القرآن.
واقعية أكثر:
ومن أجل أن نكون واقعيين أكثر، فيوحنا
الدمشقي ليس هو مبدع تلك الفكرة من الأصل، لكنه أضاف لها هذا الجزء تحديداً، ألا
وهو مسألة “عيسى” عليه السلام، فأصبح هنا دليلاً لمن يتبنوا تلك الفكرة،
فكرة خلق القرآن، وصاروا يضعون ذلك الدليل في ملفهم حين يتناقشون مع من لا يؤمنون
بفكرتهم، لإنه ببساطة شديدة، فكرة خلق تالقرآن، كانت موجودة قبل “يوحنا
الدمشقي” وأزال عنها فقط التراب، واستمرت ذات الفكرة لما بعد “يوحنا
الدمشقي”مع ناس إسمهم “الجهمية”، ويقال بأن أول من قال بفكرة خلق
القرآن واحد إسمه “إيبان بن سمعان” والذي تبناها منه وأشهرها أكثر واحد
إسمه “الجعدي بن درهم” والأخير لم يتبنى فقط فكرة خلق القرآن، بل تبنى
كذلك مجموعة خطيرة جداً من الأفكار الهدامة بالنسبة للدين الإسلامي، والحقيقة كانت
تلك الأفكار الهدامه منتشرة في العالم الإسلامي على التساعه، وانتشارها كان
عادياً، ولا اعتراض عليه، من خلال المناظرات، والمناقشات، ولما كانت الحركات الفكرية
تتطعم بحركات سياسية، وهنا ظهرت الطامة الكبرى، فتدخلت الدولة الأموية، لأن تلك
المشكلة وصلت لذروتها الخطرة حتى هددت وجود الدولة الأموية ذاتها، وهذا بالضبط ما
حدث مع “الجعدي بن درهم” وغيره من الحاملين لأفكار خلق القرآن، أو لفكرة
خلق القرآن، فكان موقفهم المحارب للأمويين، والداعم لأي حركة أخرى تتولى الحكم،
غير الأمويين، سواء كانت تلك الحركة علوية، أو عباسية، وكان موقفهم هذا هو الذي
تسبب لهم بأذى كبير، وتحديداً سنة 724 ميلادية، أيام خلافة “هشام بن عبد
الملك” وقد طلع “خالد بن عبد الله” والي “الكوفة” على
منبر المسجد، ونادى في الناس وقال لهم “يا معشر المسلمين ضحوا لله
تقرباً”.. ثم نزل من على المنبر، وكان قابضاً على “الجعدي بن
درهم”، فقطع رأسه.
هل توقفت فتنة خلق القرآن بعد قطع رأس
الجعدي؟
ومع قطع رأس “الجعدي”، لم
تقف فتنة خلق القرآن، ويرجع هذا لأنه كان هناك تلميذاً من أهم تلاميذ “الجعدى”
وهو “الجهم بن صفوان الترمذي” وهو المؤسس الحقيقي للحركة الجهمية
المعروفة، وكان قد أخذ أفكاره، وبدأ ينشرها هو بنفسه، وكانت تلك الحركة الجهمية
تستند على فكرة خلق القرآن التي تتبناها بالأية القرآنية التي تقول “ليس
كمثله شئ” فأخذوا تلك الأية منطلقاً لهم ودليلاً على صدق رأيهم ورؤيتهم،
واعتبروا هذا الرأي، وتلك الرؤية من المسلمات، والحقائق، فقالوا “بما أن ليس
كمثله شئ، والقرآن الذي هو كلام الله، فيه الأمر والنهي، وفيه النفي، وفيه الوعيد،
وأدوات الجر، والحروف، والقلقلة، والإظهار، والإضغام، وأسلوب التعجب، وأسلوب
الإستنكار.. وغيرها من الأساليب الأخرى، التي هى في ذات الوقت موجوده عند الناس،
ويستخدمونه في كلامهم العادي، وبالتالي فإن القرآن لا يصح أن يخضع للأية التي تقول
ليس كمثله شئ. إذن القرآن هنا لا يصح أن يكون خالق، بل مخلوق.
حقيقة أمر الجهمية:
الحقيقة أن تلك الحركة الجهمية، من
خلال المقدمة التي وضعوها “ليس كمثله شئ” لم تكن فقط هى التي أدت بهم
للإيمان العميق بفكرة أن القرآن مخلوق من مخلوقات الله، بل كذلك أدت بهم إلى إلى
الإيمان بأفكار أخرى كثيرة جداً متطرفة جعلتهم يعتبرون من الشواذ فكرياً من بين
الحركات الإسلامية الأخرى، مثل إيمانهم بأن الجنة والنار ليسا مستمرين للأبد،
وإنما هم جائزة وجزاء لأهل الدنيا، ولفترة زمنية محددة، لإن لا ينفع لهما الأبدية،
لأن الأبدية لله وحده، وليس كمثله شئ، وتم بالطبع تأويل الأيات التي تقول
“خالدين فيها أبدا” من أجل أن تتنلائم مع هذا الفكر الشاذ والمتتطرف،
ومبررهم أنه مجرد صيغة مبالغة ليس إلا.
ما تأثير أية “ليس كمثله شئ”
على الجهميين؟
إن أية “ليس كمثله شئ” جعلت
من الأمر عند تلك الحركة، أن أي شئ له بداية، أو أي شئ له نهاية، يكون مخلوقاً،
وفي نفس الوقت.. اي شئ مخلوق، لابد وأن يكون له بداية، وله نهاية، لإن ببساطة
“ليس كمثله شئ”. وبما أن اقلرآن له بداية، وله نهاية، يكون والحالة تلك،
مخلوق من مخلوقات الله، وبما أن الجنة والنار من مخلوقات الله، يبقى لا يجوز أن
يكون لهما أبدية.
ما تأثير الجهمية على الدولة الأموية؟
لكن “الجهمي بن صفوان” وغيره
ممن يحملون تلك الأفكار، كان وقوفهم ضد الدولة الأموية وقوفاً مطلقاً، ومع أي حركة
مناهصة للدولة الأموية، فاشترك “الجهمي بن صفوان” مع “الحارس بن
سليك التميمي” في الثورة ضد الدولة الأموية، فقبض عليه “سبب بن
أحوج”” وهو قائد شرطة “خراسان” وقام بإعدامه.
إنتقال أدلة خلق القرآن:
وانتقلت تلك الأدلة والمزاعم التي تعزز
من فكرة خلق القرآن إلى جماعة “المعتزلة” والذين كانوا يتبنون علم
الكلام، والفلسفة، فزادوا على تلك الأدلة دليلاً جديداً، وهو أن القرآن مُحدث
بشهادة الأيات القرآنية ذاتها، ومُحدث معناها أن للقرأن بداية، أي حديث عهد، نزل
أيام النبي صلى الله عليه وسلم. ولما وصلت كل تلك الأفكار لجماعة
“الإباضية”، فقد دخلوا في نقاشات حادة حول فكرة خلق القرآن، واستدلوا في
إيمانهم بتلك الفكرة، بدليليين أخريين، فقالوا أن الله تعالى يقول عن القرآن
“جعلناه قرأنا عربيا”، أي أن القرآن مجعول، أي مخلوق، ووضعوا هذا الدليل
الإضافى لجعل من فكرة أن القرآن مخلوق، غير قابلة للنقاش، وأنها فكرة مسلم بها،
ولا جدال فيها بعد الأن. والديل الأخر، أنهم آمنوا بأن كل شئ في الدنيا، وأن كل شئ
موجود، إما أن يكون خالق، أو مخلوق، لا شئ ثالث، ولا شئ وسط، وبما أن القرآن ليس
خالق، ففي تلك الحالة هو مخلوق
بداية الأمر:
ومنذ بداية ظهور فكرة خلق القرآن، مع
“إيان بن سمعان” والجهمية بعد ذلك، ومع “يوحنا الدمشقي”،
والفلسقفة المسيحية، والإغريقية، وحتى الوصول للمعتزلة والإباضية، كانت كل حركة من
تلك الحركات التي تحدثنا عنها، تضيف دليلاً جديداً من عندها، لتثبت أن القرآن
مخلوق. لكن على الرغم من كل هذا، لم يكن هناك أي مشكلة، ولا أي أزمة في التاريخ
الإسلامي، ولا في الفكر الإسلامي، ولم تكن تلك هى الفكرة الوحيدة أصلاً المنتشرة
التي تخالف عامة المسلمين، فلم تكن هناك أي أزمة أبداً، ولم تكن هناك ما تسمى
بالفتنة، بل ظهرت المشكلة الحقيقية عندما تحول الأمر للسياسة، وعندما حدث أن
السياسة تدخلت، فظهرت المعارضة على الفور، والثورة ضد الدولة الأموية بسبب تدخلها
في الأمر.
ماذا حدث مع مجئ العباسيون؟
وعندما جاءت الدولة العباسية، فقد
اعتبروا أن أصحاب تلك الأفكار داعمين لها، خصوصاً أنهم من ساعدوا العباسيين في
إسقاط الأمويين، وعلى هذا الأساس.. قرب العباسيون أنصار هذا الفكر، خصوصاً
المعتزلة منهم، ومن هنا أصبجوا جزءً من البلاط العباسي، فلما بدأت حركات انشقاق
داخل الدولة العباسية، في عهد “المأمون” بالتحديد، لدرجة أنه تم عزل
“المأمون”، ليس فقط في “مصر”، وإنما في “بغداد”
نفسها، وتم الدعاء لغير “المأمون” في مساجد “بغداد”، وهى
المدينة الحاضنة للدولة العباسية، فأدى كل ذلك أن يتحرك “المأمون”
بجيوشه لمصر وبغداد، وهذا من أجل محاولة السيطرة من جديد، فكان الفكر المفروض أنه
مؤيد للعباسيين، وهو فكر المعتزلة، وغيرها من الأفكار الفلسفية التي نشأت في
العالم الإسلامي، والتي وقفت أمام الأمويين، وساعدت تلك الأفكار العباسيين في
الوصول للحكم، والتي هى أساس حكم “المأمون”. وتوفق هذا مع بدء دخول
الترجمة للكتب الفلسفية، والتي تدعو لإعمال العقل، لا النقل في الدين، فأدى ذلك
إلى تأييد حكم العباسيين الذي هو بالوراثة، على اعتبار أنه ليس حكماً مخالفاً
للخلافة الراشدة، التي هى على منهاج النبوة، مع وجود التفسيرات العقلية التي
منحتها هذه الحركات الفكرية للمأمون، وللعباسيين، والمخالفة لنص الأيات والأحاديث
الشريفة، وكل هذا أدى بالعباسيين إلى التقرب من المعتزلة، فظهرت الفتنة سنة 2013
هجرية، على يد واحد إسمه “عبد الله أحمك بن أبي ذواد” و”المأمون”
كان يقربه منه كثيراً، وكان العباسيون يحبوه جداً, وهنا كان بدء ظهور الفتنة مع انتشار
الفلسفة في العالم الإسلامي، ومع بزوغ حركة الترجمة، ومع بطانة السوء التي أحاط
بها العباسيون أنفسهم، ومع ربط أصحاب هذه الأفكار بانتصار العباسيين على الأمويين،
واعتبار أنها الحركة المؤيدة والداعمة للعباسيين في العالم الإسلامي، مقابل
الأصولية الدينية. ومع كل هذا، إضافة للتبني السياسي للمعتزلة من جانب الدولة
العباسية، ظهرت فتنة خلق القرآن.
نهاية القول:
كما قلت لكم إن كل تلك الأفكار التي
كانت موجوده في العالم الإسلامي، والمختلفة، والتي هى خارج الصندوق، كانت موجوده،
ومنذ بداية الإسلام، وطوال الدولة الأموية، وكانت تحدث مناظرات، ومناقشات، ولم يكن
هناك أي مشكلة لذلك، ولكن المشكلة حدثت حين فرضت تلك الأفكار على الناس، وتبناها
النظام السياسي الحاكم، وبالتحديد الأسرة العباسية، وازداد الطين بله بتقريبها
لمعتنقيها، ثم فرض تلك الأفكار ومروجيها بالقوة على الناس، وفي هذا الوقت كان من
الطبيعي أن تطل فتنة خلق القرآن برأسها، وتخرج من قمقمها.
متى ظهرت فتنة خلق القرآن؟…. وإلى
اللقاء.
إرسال التعليق