الشر الجميل وماذا قال عنه الفلاسفة؟

 

الشر الجميل وماذا قال عنه الفلاسفة؟..
المرض زائر ثقيل، لا أحد يحبه، أو يتمناه لنفسه، أو لأحد من ذويه، أو أحبابه، وردة
الفعل عند معظم الناس، خاصة عند الإصابة بمرض مستعصي، أن تجد الواحد منهم يحدث ربه
ويقول له “ليه يا رب تعمل فيا كده؟”.. وهو في تلك الحالة يعترض اعتراضين،
وليس اعتراضاً واحداً، الإعتراض الأول “ليه خلقت المرض من الأصل يا رب؟”
والإعتراض الثاني “ليه يكون المرض من نصيبي أنا وبس؟”.

التفكير في القدر:

وهذا الأمر يجرنا إلى مشكلة التفكير في
موضوع “القدر”، وتعريف القدر هو ما يصيب الأنسان، سواء كانت تلك الإصابة
خير له، أم شر. مما لا إرادة للإنسان فيه، ولا سيطرة له عليه. ويعتبر الإنسان هذا
الأمر “مُقدر”، ويعتبره يجري بتدبير ومشيئة إلهية،  والكافر معترف بأن هناك كوارث من الممكن أن تجري
له رغم أنفه، لكن لا يعتبرها مسألة مُقدرة، ولا مسألة تجري بتدبير، أو بمشيئة عُليا،
لكن ينظر لها على أنها نوع من المصادفات، والحظوظ،، والخطط العشوائية التي تجري
اتفاقاً، وعلى سبيل المثال يقول أحدهم بأنه في أحد الليالي أتت له
“تعسيلة” وهو جالس بجانب الشباك، أي نام، فمرت بعوضة صادفت أنها كانت
طائرة في تلك اللحظة، فقرصته، وصادف أن كان فيها ميكروب ملاريا خبيثه، فنقلت له العدوى،
فمرض على الإثر، وهكذا يرد هذا الشخص المسائل كلها إلى مجرد “صُدف”.

هل المرض يأتي بالصدفة؟

أقول في هذا الصدد، بأن لا شئ في هذا
الكون يجري بالصدفة على الإطلاق، بل وراءه مدبر حكيم، حتى في شأن المرض الذي يصيب
أي إنسان، فلا يمكن لبعوضة أن تصيب شخص بالذات، وهى تحمل جرثومة الملاريا الخبيثة،
صدفة هكذا، فيجب أن يكون هناك إذن مسبق لفعل هذا الأمر، فأي شئ يحدث في مُلك الله
يكون بعلمه ومشيئته، فالبعوضة مسلطة على هذا الشخص بالذات، وكل ما يجري في الكون،
سواء كان بسيطاً وتافهاً، بتأثير بعوضة مثلاً، أو تلك النوازل الكبرى، كإلقاء
قنبلة ذرية على بلد معين، كقنبلتا “هيروشيما ونجازاكي”، هو أمر يجري
بعلم الله ومشيئته في خلقه، فالكل مُقدر، والكل مُدبر. إذن نحن نقول أن ربنا قدر
المرض، وقضا به على الناس، ولكل له نصيبه المقدر منه، وهذا أمر طبيعي لأن من الأصل
الخالق هو من خلق الميكروبات والجراثيم والفيروسات، وبقدرته ومشيئته الإلهيه، كما
أن الله هو الذي خلق الأجسام الضعيفة القابلة للعطب والمرض، وربنا لم يخفي عنا تلك
المسألة، بل قال “خُلق الإنسان ضعيفا”، وقال كذلك “لقد خلقنا
الإنسان في كبد” أي في معاناة.

لماذا قدر الله علينا المرض؟

وبالفعل يبقى السؤال الأساسي “لماذا
قدر الله علينا المرض؟” و”لماذا خلقنا بأجساد ضعيفة عُرضة لهذا المرض؟”
و”ولماذا قضى علينا بالضعف والعجز والشيخوخة بعد الفتوة والشباب؟” والملحدين،
وبعض ضعاف الإيمان، يتخذوا من تلك الأسئلة مدخلاً ومطعن على العدل الإلهي، تعالى ربنا
عن ذلك علواً كبيراً.

دور الفلسفة:

وتلك الأسئلة في الفقرة السابقة،
تناولتها الفلسفة بالتحليل، والتي تدور حول محور مسألة الشر في الوجود، وظل هناك
الكثير من المجادلات والمناظرات والمناقشات في هذا الشأن، فقد قال الفلاسفة بأن
الخير والشر موجودان بالفعل، لكن الخير هو القاعدة، والشر هو الإستثناء، فالواحد
يمرض أيام، أو شهور، لكن معظم عمره يقضيه في صحة، وقالوا بأن الشر دوماً وراءه
الخير، فالمرض يورث مناعة، ويعطي الإنسان جلد وصلابة، وتحمل، وما من شر إلا وراءه
خير، حتى “البركان” هو ينفجر، لكن وراء هذا الإنفجار والحمم الملتهبة
المنصهرة، صيانة للكرة الأرضية عن طريق هذا التنفيس للضغط الداخلي، ولولا هذا
التنفيس من حين لأخر، كانت انفجرت الأرض، فإذا كان البركان يؤدي إلى موت 100 إنسان
مثلاً، فهو يحمي 6 مليار، تماماً كما “الحلة” البرستو عندما يزيد الضغط
فيها، فتقوم بالتصفير، وطلوع البخار من ثقب الغطاء.

هل الحروب شر فقط؟

إن الحروب شرور لا شك في هذا، لكن لو
قرأنا التاريخ، سنجد معظم الإختراعات تمت في فترات الحروب، مثل اختراعات الأدوية
كالسلفا والمضادات الحيوية، واختراعات أخرى كبيرة، كالطاقة الذرية، والقنابل الذرية،
والصواريخ عابرة القارات، وما من حرب إلا وأثناءها حصلت اختراعات كبيرة، وهذا يرجع
لرصد أموال كبيرة، وعقول يتم تجميعها لتعكف على تلك الإختراعات، ثم أن الحروب، دون
ريب، كان لها أثراً سياسياً على المدى الطويل، لأن تلك الحروب وحدت الناس فيما
بعد، بعد أن كانوا مجرد جماعات وقبائل تتقاتل فيما بينها هنا وهناك، ثم نشأت بعد
ذلك الأمم والدول، ثم اتحدت في أحلاف لتحمي نفسها أمام هجمات من أحلاف أخرى..
وهكذا، وفي النهاية صرنا أمام “عصبة الأمم”، ثم “الأمم المتحدة”.
وهذا الإتحاد والتجمع، خير انبثق من شر الحروب.

وهكذا تتبع الفلاسفة كل الأمور، فوجدوها
تحمل الشر والخير معاً.

ما دور الشر الرائع الذي يغفل عنه
الناس؟

ثم أن الشر في النهاية هو من يفرز
معادن الناس، “فلولا المشقة، لساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام
قتال”، فكل الناس يدعوا أنهم شجعان وأبطال، لكن عندما تأتي لحظة الشر التي
لابد منها، فإذا واحد يستخبى تحت السرير، وأخر يطلع يحارب، فلا أحد يفرز الناس
ومعادنها، إلا لحظة المشقة، وهنا المشقة لها دور رغم أنها شر، لكنها كاشفة لحقائق
الناس.

كذلك لحظة الحاجة، وهنا يبان الكريم من
البخيل، والإحتياج مُر، لكن في النهاية يكشف معادن الأصدقاء.

إذن هنا كذلك شر، ولكن من وراءه خير.

المسألة أكثر من ذلك:

وقد قال الفلاسفة بأمر يتعدى ذلك، فقالول
بأن الشر في أحيان كثيرة لابد منه، وأن الشر هو شئ طبيعي، ونتيجة حتمية للحرية
التي أعطاها الله للبشر، لأن تلك الحرية اقتضت أن يبقى الإنسان حُراً في أن يصيب،
أو يخطئ، وإلا ما معنى الحرية؟، فلا يمكن أن يمنحنى الله الحرية، ثم يقول لي
“مسموح لك بالصواب فقط، ولا تخطئ”، فإن حدث هذا.. لا تصبح حرية. فالحرية
معناها “أن يكون لك حرية الخطأ، وكذلك حرية الصواب”، والخطأ هنا بالتالي
يجر وراءه الشرور كنتيجة له، فأصبح هنا الشر لازم، وضرورة من ضرورات الحرية، ولا توجد
طريقة أن تتجنبه إطلاقاً، إلا إذا قرر الله سلب حريات الناس، ويحولهم إلى ما يشبه
الرياح والأمطار، فكل الحوادث منها خاضعة لقوانينه وتسييره لها تبع تلك القوانين
الجابرة لحركتهما، أي أن نصبح كالملائكة بلا خطأ، وانتهى الأمر.

لكن الله هنا أراد أن يكرم الإنسان،
فمنحه حرية الفعل، خطأ كان، أم صواب، ومن مقتضيات ذلك أن يخطئ الإنسان، ويصيب، أي
أن يفعل الشر، كما يفعل الخير، كلاهما يسيران في خطين متوازيين في تلك الحياة.

ماذا نفعل في الشر المُطلق؟

وهنا قال لنا الفلاسفة بأن الحالات
التي لا نجد فيها حكمة ظاهره وفورية من الشر، ولا مبرر له، ولا يعقبه خير، حتى في
هذه الأحيان، يجب أن نعلق الحكم، لإن الحكاية كما لو كنت جالس في مسرحية بتتفرج،
فأنت تريد بعد الخمس دقائق الأولى من الفصل الأول، وشاهدت رجل على المسرح انضرب
بالرصاص، والناس قالوا عنه مظلوم، ومات مظلوم، فهل تصدر حكمك على الأمر فوراً، أم
تنتظر للفصل الأخير من المسرحية، لتتبين الحقيقة؟. أليس من الجائز اكتشافنا أن
الرجل المقتول كان يستحق بالفعل القتل؟.

ومن أجل هذا يجب تأجيل الحكم، فالدنيا
عبارة عن رواية متعددة الفصول، كما وأن بعد الدنيا، هناك أخرة، سوف يتم فتح الأورق
والدوسيهات فيها، ويحصل التحقيق، فمن الجائز أن ترى هذا المرض الذي حدث لفلان،
فعلاً كان لابد من حدوثه، فما الداعي للتعجل في الحكم، فما دامت رواية الوجود من
عدة مجلدات، ومن عدة فصول، فلا يجب الإستعجال في إصدار الأحكام لمجرد سطر واحد
فيها، فتقول “ليه الظلم ده يا ربي؟، ليه عملت كده؟، هو انا عملت إيه في دنيتي؟”
وتظل تصرخ وتولول، ولكن هذا خاطئ، إذ يجب التريث والصبر والإنتظار لتلك الحكمة
الكامنة من وراء إصابتك بالمرض، لعل فيه الخير لي، كما وأن من أدراك لو كنت بفتوتك
وصحتك كنت افتريت على خلق الله مثلاُ، وهو وارد أن تفعل، كما وأن من أصيب في نظره،
أو يده، أو قدمه، من أدراه ماذا كان سيفعل بالعضو المصاب من شر؟.

حادثة أذكرها:

أذكر حادث قد وقع لأحدهم، وهو شاب،
وكان حادث سير على طريق، ونقلوا الشاب للمشفى، فوجد الأطباء، أن الشاب مصاب بنزيف
حاد في كليته، فعلى الفور أدخل الأطباء الشاب غرفة العمليات ونزعوا كلية الشاب،
وصار بكلية واحدة، وفي المستشفيات العامة، يتدرب أطباء الإمتياز الجراحين على تلك
الأعضاء قبل التخلص منها، وحين فحص الأطباء كلية الشاب، وجدوا كليته تلك كان بها
سرطان وليد في بدايته. وهنا لو كان هذا الشاب لم يقم بحادث عربته، فكان سرطان
كليته سينمو دون أن يدري به، فسرطان الكلية هو سرطان صامت، لا يظهر إلا اما يكون
خلاص خلص على الواحد. ومن هنا جاء الحادث فيه خير كبير للشاب، فلا يجب الحكم على
الأمور على الفور، ونتمسك بالقول “لعله خير” ونصبر على الإبتلاء، فلعل
فيه الخير لنا كله، ولا ندري به.  ومن أجل
هذا كان قول الفلاسفة القدماء صحيحاً تماماً “علق الحكم، إنتظر، لا
تتعجل”. أو كما قال الله “وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم”.

كما وأن من الجائز أن يحدث لك شر في
الدنيا، ويعوضك الله في الأخرة.

 كما وأن المرض من الممكن أن يكون كفارة ذنوب،
فالحياة مستمرة بالنسبة للمؤمن، فهناك موت، ثم بعث، ثم حشر، وإما إلى جنة، وإما
إلى نار. فالموت هنا مجرد واحد يغير بدلته، إستعداداً للمثول بين يدي الملك الواحد
الأحد.

ولكن الكافر لا ينظر إلا تحت قدميه،
ولا يصبر، ولا ينتظر الحكمة الكامنة، والحياة في نظره هى مجرد اللحظة التي يعيشها
يوم بيوم، وشهر بشهر، وسنة بسنة، ويعتقد أن لا وجود لشئ بعد الموت، إلا التراب.

لماذا يتذمر الكافر من المرض؟

وهنا يبين الفلاسفة بأن الكافر علام
يتذمر من الشر؟ ولماذا؟ فما دمت رفضت الخالق من البداية، وأن كل شئ بالصدفة
وعشوائي، فلماذا التذمر والحنق إذن؟.

كما وأن الكمال لابد وأن يكون لواحد
فقط، فمستحيل أن تكون أنت هذا الواحد الكامل أيها الكافر، أي لا تموت، ولا تمرض،
ولا تنام، ولا تجوع. إلى أخر روط الكمال ومقتضيلاته. أي من الأخر، تريد أن تكون
كامل الأوصاف، وهنا الكمال لا يجوز إلا لله سبحانه وتعالى، فاترك نفسك في غيك،
فأنت تطلب المستحيل، فما دمت كافراً، فأنت تطلب شئ، في الوقت الذي تنكر فيه كل
شئ!!!!.

وهناك قول رائع للإمام الغزالي يقول
فيه “لولا اعوجاج القوس لما رمى”. وقصد الإمام أن العيوب التي نراها
عيوباً، حتى الإعوجاج له دور في كمال الوجود.

الشر الجميل وماذا قال عنه الفلاسفة؟..
.. وإلى اللقاء مع مقال علمي وإيماني جديد.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top