كيف تصبح كاتباً ناجحاً للقصة القصيرة؟

 

   

كتب أحد الناشرين ذات مرة إلى “بول جاليكو” مؤلف قصة
“الأوزة البيضاء” وهى قصة شهيرة عن الحرب العالمية الثانية “لا
تهمني خلفيتك مهما كانت إذا استطعت أن تكتب لي قصة جيدة”.

 

   
ولقد قبل أن كل شخص لديه على الأقل قصة واحدة يرويها، قصته هو. لكن الكاتب
لابد أن يكون لديه قصة أكبر بكثير من قصته الخاصة. قصص عن أصدقائه، واقاربه، وكل
من قابله من الأطفال والكباروالغرباء، ومن خلال التنوع الساحر للعواطف والعقول
والأفعال، يمكن للكاتب أن يتحقق إذا أراد أن يكون كاتباً بالفعل، وعن طريق التمرين
وشحذ الموهبة، تتحول هذه المادة التي بين يدي الكاتب إلى عمل فني، يجد في النهاية
جمهوره الخاص،

 

   
إن الكاتب لا يكتب لنفسه فقط، برغم أن الكتابة تشبع ذاته أولاً، إلا أن
القصة لا تعتبر كاملة إلا إذا وجدت صلتها بعقل القارئ.

 

   
ويذكرنا “سومرست موم” بأنه لا شئ يحدث في حياة الكاتب، ولا يمكن
استخدامه في القصة، ويمكنني أن أضيف بأن لا أحد من صديق أو عدو أو غريب يرد على
وعي الكاتب، إلا ويستحق الملاحظة والتفكير.

 

   
وهكذا. فإن نقطة البداية في البحث عن مادته القصصية نكمن في تجاربه الخاصة
وعلاقاته،ـ لكن تبقى الموهبة وحدها فقط هى 
التي تصوغ عملاً فتياً من اللحظات المأساوية، أو الفكاهية، المملة أو
التنبؤية، التي لاحظها أو شعر بها الكاتب فيما حوله من حيوات.

 

   
وقد كشف “شيروود أندرسون” في حكاياته المبكرة للعديد من الكتاب،
كيف يمكن استخدام ما يبدو لنا متناثراً ولا تربطه أية رابطه في حياتنا اليومية، في
نسج قصصي جميل، من خلال التجارب التي تحدث لنا أو أمام أعيننا، وتلك التي تبرق
حولها بغير توقع.

 

   
كانت التجربة في قصص “أندرسون” غالباًً  ما تكون عن صبي ينمو في محيطه الصغسر، محاولاً
أن يفهم نفسه وأقرانه، متصرقاً بشكل مزعج في غالب الأحيان، فيما يقابله من حوادث
غير متوقعة في الحياة، وفي أحداث كان قد لاحظها الكاتب، ثم سجلها بعد ذلك في قصصه.

 

   
إن الكاتب الموهوب، هو الذي يبدأ مبكرا، وبشكل خاص جدا، بملاحظة مثل هذه
الأمور، واختزالها، حتى بلا وعي، في بنك ذاكرته، ليستخدمها في المستقبل.

 

 

إياك والقصة الباردة:

هناك
قصص قصيرة مؤثرة نتجت عن الإستخدام الجرئ للخيال المبالغ فيه، وقد كتب
“أنتوني ترولوب” في سيرته الذاتية: كنت أبدأ دائماً للبناء قلاع ثلاثة
في الهواء، أي في خيالي، لأسابيع أو لأشهر، أو حتى لسنوات، وتعلمت من هذه الطريقة
أن أحتفظ بالإهتمام، بالقصة الخيالية وأقعد على عمل خلقته بنفسي منفردا بخيالي
الخاص، وأشك أنه لولا تدريبي ذاك .. لما كتبت كتاباً واحداً”، وما قاله
“أنتوني ترولوب” يقودنا، نحن كتاب القصة الفصيرة إلى حقيقة جوهرية لم
ينتبه إليها أحد من قبل بدرجة كافية، وهى قوة إيماننا بالقصة القصيرة التي نكتبها،
فعلى الكاتب أن يؤمن بعمق بما يقوده إليه خياله، وبما يطكتبه، وعليه أن يتدرب بشدة
حتى يوقف الشك والإرتياب وعدم الإيمان بما يفعل. عليه ألا يهتم بما يكتب فقط، بل
عليه أن يؤمن بلا جدال، بأنه يعيد خلق الحقيقة، وأن الحقيقة الخيالية في قصته هى
الحقيقة ذاتها، ولا يدع  مجالاً لأحد في أن
يرتاب في غير ذلك. فإذا كتب القصاص قصته بأقصى ما يمكنه من الإيمان بعمله، فإن
القصة القصيرة ستصل إلى القارئ بالإيمان نفسه الذي كتبها به. هذا الاهتمام الحيوي
بالإيمان بما يكتب، هو نوع من الإتفاق أو المؤامرة بين الكاتب وبين القارئ، يبدأ
عادة بمعرفة النفس ليمتد بعد ذلك لمعرفة الآخرين، وبشكل عام، فإن هذه العملية
حتمية في تفييمنا لكل ما يجري حولنا، مع ملاحظة أن الحق الذي نعطيه لأنفسنا من
مشاعر التعاطف أو الفهم أو الأسف أو التقمص، لابد وأن يكون في اعتبارنا، كحق
للآخرين أيضا من أصدقاء وأحباء وأعداء، حين نلاحظهم ونكتب عنهم، فهذه هى الطريقة
الوحيدة التي تجعل القارئ يتجاوب مع شخصيات بعيدة كثيراً عن تجربته الفعلية، وبهذا
الشكل استطاع كتاب مثل “كافكا” أو “تشيخوف” أو”يحى
حقي” أو “يوسف إدريس” وغيرهما من كتابنا العرب.. أن يكشفوا لنا
جميعا أسرار وخبايا وخفايا الجنس البشري وأعمق الحقائق التي نجهلها عن أنفسنا.
وإذا كان هذا الإنغماس ناقصا. فإن قصتك ستترك في القارئ أثراً فاتراً، وربما يشعر
بالزيف والتصنع في كل ما تقول، لآنها خرجت منك بغير اقتناع عاطفي حقيقي، ويستطيع
القارئ آنئذ، بذكائه وإدراكه، أن يضع يده على هذا البرود في قصتك، ويحس النقص في
التزامك الحقيقي نحو عملك، بالضبط كما يجفل الجمهور المتذوق للموسيقى حين سماعه
نغمة شاذة من المايسترو، أو في غير موضعها.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *