الشيطان .. والسيده ورد

 

الشيطان .. والسيده ورد

 

قال الشيطان لتلميذه يدربه على خفايا المهنة
وأسرارها: كانت العصور المظلمة، كما يتعسف في وصفها بعض المؤرخين، من أحفل وأجمل
الأيام في تاريخ حياتي، ولم أصادف من التوفيق في أعمالي مثلما كنت أصادفه في تلك
العهود الخوالي، فهنا وباء فتاك، وهناك مجاعة فظيعة، وهناك فتوحات وغزوات وثورات
وحروب مهلكة، ناهيك عن أرباب الملاهي والمغنيات، والغوازي، والخواطي، والراقصين
والراقصات، والبغايا، والحشاشين، وشاربي الخمر، والحواة والسحرة، ولاعبي القمار
والقرود، والفساق، والعياق، وأهل الأهواء، وطوائف الرميلاتية، والخلابيص، وفي هذا
كله وغيره كان مجال أعمالي فسيحاً. زاخراً. عامراً. ومع ذلك. فإن من خصالي
المتواضعة الشهامة والمروءة حيال الجنس اللطيف، والمسارعة إلى تلبية رغائبه
وشهواته، ولذلك، فلم تكد السيده “ورد” الفاتنة اللعوب تقول أنها على
استعداد لكي تبيع نفسها للشيطان إذا استطاعت أن تدخل بعض الفهم والتعقل في رأس
زوجها الغشيم، حتى كنت إلى جانبها على الفور.

كانت “ورد” زوجة “خليل باشا البكري”
إمرأة موفورة الحسن، فارعة العود، يتوج رأسها شعر أشقر طويل الضفائر، كانت به
مزهوة. فخوراً. وقد جلست حينذاك في مخدع نومها بالقصر، تحدق مكتئبة مهمومة، في
دولاب ملابسها العامر وبين يديها علبة مجوهراتها المليئة، حينما ظهرت من خلفها
فانتفضت يسيراً لدى رؤيتي، بيد أنها عرفتني على الفور وقالت لي “هكذا جئت على
جناح السرعة؟”.

فقلت وأنا أنحني أمامها تحية “ما الذي يكدرك
يا سيدتي؟”.

فقالت بحرارة “يكدرني. أنظر إلى تلك الخرق
البالية التي أكلتها العتة، وإلى مجوهراتي التي عفا عليها الزمن”.

فنظرت، وكان ينبغي أن أقول أن الدولاب به على
الأقل من عشرين إلى ثلاثين فستاناً أنيقاً، وفي علبة المجوهرات العديد من الأساور
والحلقان والدمالج والبروشات، ولكن ليس لنا معشر الجنس الخشن أن نتدخل في هذه الشئون.
على حين استطردت تقول “إني لم أحصل على فستان جديد منذ سنة، ولا أكاد أجد
ملابس لائقة تستر ظهري، ولا قطعة مجوهرات لم ترها صحباتي وصديقاتي من قبل”.

-وما الذي يمنع حصولك على فساتين ومجوهرات جديدة؟.

-هو زوجي المغفل، فهو يقول أن هذا فوق طاقته.

-وهل في مقدوره حقاً؟.

-يمكنه إذا أراد أعماله على الوجه الصحيح، ولكن،
ها هوذا “خليل باشا البكري” على سن ورمح ومالك الأراضي، ومع ذلك، لا
يكاد يظلم الفلاحين ويرهقهم بإيجارات الأرض، ولا يكاد يظلم الناس ويرفع من أسعار
محاصيله، فهل لك أن تقول لي بحقك كيف يستطيع مثله أن يجمع المال إلا بظلم فلاحيه،
وظلم الناس؟.

-نعم. ما فائدتهم حقا؟.

وذهبت تقارن بين حالتها وحالة زوجة صديقه الباشا،
وهى كلما رأتها ألفتها ترتدي فستاناً ومجوهراتاً جديدة، وما ذلك إلا بسبب جمود
زوجها “خليل باشا البكري” وانصرافه إلى الرحمه بالفلاحين والناس.

واختتمت قائلة وقد استحالة غضبتها دموعاً جارية
“إنني في حاجة ملحة إلى فساتين جديدة، ومجوهرات جديدة”.

وسرعان ما حفزتني الشهامة إلى نجدتها فقلت لها،
وقد هدأت قليلاً “خلي عنك هذا يا عزيزتي، ولنكن عمليين، وما عليك إلا أن
توقعي هذه الورقة بإمضائك استيفاء للرسميات، فأدير لك الحصول على كل الفساتين
والمجوهرات التي تريدينها”.

فقالت، وهى تطوقني بساعديها “ما أنت إلا ملك
كريم”.

فتجاوزت عما في هذه التسمية من خلط شنيع، فقلت بعد
أن وضعت في جيبي العقد المذيل بإمضائها “والآن، لابد من عمل شئ نذكر به خليل
باشا البكري بواجباته وتكاليفه كزوج”.

وجعلت أفكر ملياً، ثم استطردت قائلاً
“وجدتها. قولي له أنه إذا لم يحضر فساتين ومجوهرات جديدة، فستعرضينه لفضيحة
كبيرة، وذلك بأن تركبي عارية في شوارع المدينة، لا يسترك سوى شعرك الذهبي الطويل”.

فقالت “ما أبدع تفكيرك. إن خليل باشا البكري
سوف يرتاع من مجرد التفكير في شئ كهذا”.

على أنها اسندركت. بعد امعان النظر قائلة “لكن
لا سبيل إلى تنفيذ هذه الفكرة، وإلا كانت شيئاً مروعاً، وربما يطلقني”.

ثم واصل ” ولكن. لا، فمهما حدث لن يطلقني،
لإنه يحبني حباً جماً، ولا يطيق فراقي أبداً”.

-جميل، وفي هذه الحالة، فإن مجرد إبداء تهديدك
سيرده إلى الصواب، لكن، إذا فرض المستحيل، ولم يرتدع، ولم يسمح لك بالخروج، فسوف
أركب في شوارع المدينة مكانك، متنكراً بهيئة السيدة ورد، لتشفي غليلك منه”.

فما تمالكت السيدة “ورد” أن ابتسمت
مغتبطة، سعيدة، فقبلت يدها، وانصرفت، وتركتها يوماً، أو بعض يوم، لمفاتحة زوجها في
الموضوغ، ثم ظهرت أمام “خليل باشا البكري” على صورة مواطن، وهو يجلس في
حديقة قصره شارد الذهن، مشتت البال، فلما حييته، وسألني عن أمري، قلت له “قد
يكون بإمكاني أن أسدي لك بعض الخدمات، فإني أراك مهموماً مضطرباً”.

-إنها مشاغل عائلية، ولا لزوم لتعبك من هذه
الناحية، ولهذه المناسبة، ما اسمك؟.

-لي أسماء كثيرة، منها الرجيم واللعين وغير ذلك. ولك
أن تختار الوصف الذي يحلو لك.

فجعل يحدق في عيني اللامعتين برهة، فلما استوعب
ذهنه حقيقة الحال، هم أن يولي هارباً، لولا أني جذبته من ذيل سترته، قائلاً
“إن هذا لا يليق بك كباشا، وإني ما جئت إلا لمساعدتك”. وسألته أن
يكاشفني بمتاعبه.

فراح يحملق بي مشفقاً حيناً، وما لبث أن ذهب يقول
“المشكلة تتلخص في أن زوجتي لا تكف عن المطالبة بالملابس والمجوهرات الجديدة،
وليس في قدرتي أن أوفر لها مطالبها من هذه الناحية إلا بإرهاق الفلاحين والناس،
وإني أفضل أن أموت على أن أظلم الفلاحين والناس وأرهقهم، ولكنها توعدت بأنها إذا
لم تنل الفساتين والمجوهرات الجديدة، فسوف تركب عارية في شوارع المدينة، لا يسترها
سوى شعرها الذهبي الطويل”.

ثم كمن يحدث نفسه “رحماك يا ربي، إني لا أطيق
ظلم الفلاحين والناس، لكني إذا لم أفعل جعلتني أضحوكة أهل المدينة أجمعين، ولذلك
تراني في شر ورطة، لا أدري ما العمل”.

-ولماذا لا تطلقها وينتهي الأمر؟.

-لا. لا أستطيع. أنا أحبها حباً جماً، ولا أملك
ترك حبها.

-إذن. تجلد يا خليل باشا وارفع رأسك عالياً..
سأشير عليك بما تعمل، إثبت في الميدان، ولا تتزحزح قيد شعرة، إنك في معاملتك
للفلاحين والناس سابق لعصرك ألفاً من السنين، والآن، وقع هذه الورقة بإمضائك،
سأضمن لك أن ورد هانم لن تركب عارية شوارع المدينة.

ولما وقع عقده معي بعد تردد، قلت له “ما عليك
الآن إلا أن تقول لزوجتك إن لها أن تفعل ما يحلو لها، وأنك غير مهتم، وأنا ضامن لك
أنها لن تمس كرامتك”.

فقال لي “لست أدري كيف تدبر هذا الأمر، لكن
مظهرك يوحي بالثقة فيك، وأنا مطمئن إليك”.

وشيعني بابتسامة تجلى فيها إيمان الطفولة
وسذاجتها.

وهكذا تمت الترتيبات اللازمة، ولن يتراجع أحد
الزوجين عن موقفه، وما علىّ إلا أن أمضي بعملي مطمئناً.

ولم تنقض أيام قلائل حتى أذاعت السيدة “ورد”
في المدينة أنها سوف تركب عارية في الشارع الرئيسي، لا يسترها سوى شعرها الذهبي
الطويل، وذلك في تمام الساعة الثالثة من بعد ظهر الجمعة القادمة.

فلم أتمالك أن أعجب بها، لما رأيت من عزمها
وبراءتها، وبادرت بزيارتها عقب ذيوع الإعلان وقلت لها “إني لم أكن أتوقع يا
سيدتي أن يكون خليل باشا البكري بهذا العناد، لكن، لا تقلقي ولا تتكدري”.

فقالت “وهل تراني أنال حقاً كل ما أشتهيه؟”.

-طبعاً.. والآن متى جاء الموعد المحدد يوم الجمعة،
فعليك أن تخرجي من القصر إلى شوارع المدينة، وسوف أقابلك خارج القصر، وأظهر مكانك
في شكل السيدة ورد، ولك أن تختفي في أي بستان مجاور حتى ينتهي كل شئ.

-ألن تتخلى عني؟. إني متى خرجت تعين علىّ أن أمضي
شيئاً مروعاً.

-كيف يخطر ببالك شئ كهذا؟. لا. سترين بعد أن أتم
طوافي بالمدينة أن الرأي العام سوف يضطر زوجك إلى العمل على ظلم الفلاحين والناس
بإرهاقهم أربعاً وعشرين ساعة في اليوم لكي يوفر لك ملابس ومجوهرات جديدة.

كان الموقف معقداً، ولكن حيلتي لم تنفذ، فاتخذت
هيئة مواطن، وذهبت إلى المدينة واستأجرت فتى عهدت إليه بدق طبل في الميدان. فلما
اجتمع الناس خطبت فيهم بصفتي مواطناً لهم، أريد أن أفضي إليهم بشئ هام، وقلت أنهم
قد علموا بما اعتزمته السيدة “ورد” من الركوب في المدينة.

وسرعان ما قاطعتني صيحات المرح والبهجة، فألزمت
أصحابها السكوت بنظرة واحدة، واسترسلت أقول أنهم قد يجهلون السبب في هذا العمل،
وهو أن “خليل باشا البكري” قرر أن يثقل كواهلهم بفرض إيجارات لأرضه،
وأسعار ثقيلة لمحاصيله، وأن السيدة “ورد” ناهضت هذه الفكرة، ودافعت عنهم
عند زوجها دفاع التوسل والإبتهال، فلم يك أمامها من سبيل لكي تثني الزوج عن عزمه،
إلا أن تركب عارية في شوارع المدينة، لا يسترها سوى شعرها الذهبي الطويل. ثم
اختتمت حديثي مبيناً لهم أن المسلك المشرف الوحيد الذي يجدر بهم سلوكه كمواطنيين
صادقين، هو أن يديروا ظهورهم عند مرور السيدة “ورد” بالشوارع.

وقد بلغ تأثر الجمهور وحماسته حداً جعله يهتف عالياً
تحبيذاً للرأي واستحساناً. ثم تفرق الناس، وقد اضطرمت نفوسهم عزماً كريماً لصون
شرف السيدة “ورد” والزود عن سمعتها.

هذه أيها التلميذ النجيب هى أبرز عناصر القصة، وقد
تمت وقائعها يوم الجمعة الماضي، طبقاً للمقرر المرسوم دون اختلاف يذكر، وبعدها
أقلع الباشا عن الرحمة المقيتة، وأقبل على الفلاحين والناس يشبعهم ظلماً منظماً،
ونالت زوجته كل ما كانت تشتهي من الفساتين والمجوهرات، واستطعت في النهاية أن
أستخلص لنفسي تابعين جديدين.

قال تلميذ الشيطان، وقد فرغ أستاذه من سرد قصته
“لعلك لا تعني أنك صدقت ما عاهدت عليه الطرفين، وحافظت على نص تعاقدك معهما؟”.

فقال الشيطان “إنك لم تك ملقياً إلىّ بسمعك.
لقد قلت لك أن كل شئ تم دون اختلاف يذكر، 
فإن الإختلاف الوحيد الذي حدث في الخطة الأصلية، هو أني في أخر لحظة فقدت
إيماني بروح الفضيلة عند الجمهور، وتركت السيدة “ورد” نفسها أن تركب
أمامهم عارية، ولم يك من الشهامة في شئ، لكني لم أرد أن أسئ إلى شرفي وأمضي أنا قي
صورتها عارياً.

-لكن، خبرني، هل تطلع أحد من الناس إلى السيدة ورد
وهى تسير عارية؟.

-شخص واحد فقط أطلقوا عليه إسم “سعد”
الفضولي.

فقال التلميذ “إن نفسي تحدثني..”

فاستطرد الشيطان غير عابئ بمقاطعة تلميذه “إن
الشائع في قصة ورد هو أن سعد الفضولي أصيب بالعمى على الإثر جزاء فضوله الفاجر،
ولكن. هذا غير صحيح، لآن نظري ما زال سليماً مائه في المائة”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top