عندما يموت الموت
بطريقة مفاجئة وغريبة. تقف عربة سوداء فارهة أمام أبواب مستشفى الدكتور “مينا
نشأت” عند أطراف المدينة، يهبط سائق السيارة في رداءٍ خاص، يصعد في ارتباك
درجات السلم القليلة، يواجه موظف الإستعلامات الذي كان مشغولاً في مكالمة هاتفية، وقد تمدد بجواره أحد حراس
المستشفى يشاهد في بلاهة تليفزيون يذيع أخباراً ملونة عن جيوش تحرق بلاداً وبيوتاً
وحقولاً بالصواريخ، والطائرات والمدافع، ويصور بعض جثث مسجاة في عرض الطرق، تبدو
كتماثيل خشبية وجوهها زرقاء وعظامها بارزة وعيونها مفتوحة تراقب جنوداً يجمعون
الشباب ويسوقونهم معصوبي الأعين مقيدي الأيدي قرب جماعات واقفة تنظر إلى ركام بيوت
مهدمة ومبتورة ومتصدعة، بعيون سوداء جوفاء ووجوه بيضاء من الجوع، جافة من الخوف.
السائق حين لا يتلفت إليه أحد، يطرق بيده على مكتب الإستعلامات بطريقة تحدث
صوتاً مدوياً يثقب جو المستشفى الهادئ: ماذا تريد أيها السيد؟.
-أريد أن تترك هذا الهاتف، وتسرع باستدعاء الدكتور مينا نشأت.
-ماذا قلت؟.
-أخبره أن مولانا
الملك يحتضر.
موظف الإستعلامات، ورغم جهله بشخصية هذا الملك، وإدراكه انه لا يمكن لأحد
ان يجرؤ على إزعاج الدكتور “مينا”، وخصوصاً في مثل هذا الوقت من الليل،
إلا أن الأمر كان اخطر من كل هذا وذاك، لهذا فلابد من أن يصحو صاحب المستشفى الخاص
ومديرها.
وعلى الفور ينتفض موظف الإستعلامات ويقطع مكالمته ليتصل بالمدير الذي يزمجر
في بداية الأمر، ولكنه ينتفض واقفاً حين يسمع مسالة جلالة الملك، ويسرع يغير
ملابسه، وينزل في عجلة وهو يحمل حقيبته، والسائق الخاص يرفع يده بالتحية، ويتقدم
ليفتح له باب سيارته: إلى أين نمضي؟.
-إلى مولاي الملك.
-من هو مولاك الملك؟.
-إنه ملك الموت.
تنطلق السيارة كقذيفة لحظة ارتطمت هذه الكلمات المألوفة المخيفة في رأس
الطبيب الذي يندهش قبل أن يبتسم ويتأكد أنه في وعيه، ولكنه يتراجع في فزع حين يرى
وجهاً مضطرباً شاحباً ينعكس على المرآة الصغيرة التي تعلو رأس السائق، وحين يلقي
برأسه للوراء، يلاحظ أن مقاعد السيارة ترتدي اللون الأسود الداكن.
السيارة تندفع في الظلام دون صوت، كما لو كانت لا تتحرك، تصعد طريقاً
جبلياً، تنحدر به شقوق سود، لا يمكن سبر أغوارها “لا، لا يمكن أن أكون في
حالة عادية هادئة، سواء كنت أحلم، أو في قلب واقع، فهذه أول مرة منذ أن خلق الكون
أتحرك حياً نحو الموت حسب طلبه، وداخل سيارته، أتحرك نحو معجزة، رحلة خارقة لم
تصادف أي إنسان قبلي”.
يسند الطبيب رأسه للخلف، يشعر بدهشة تختلط ببهجة، ينتظر لحظة الوصول دون أن
يخشى الموت عند نهاية الطريق، وعلى أي حال. يمكن أن يلقى حتفه في بيته وعلى فراشه
دون الحاجة إلى اختراق جبل، واجتياز شقوق متعرجة على الجانبين.
تتوقف السيارة، ينحني السائق بعد مغادرة السيارة، ويفتح بابها في احترام
وهدوء “تفضل يا سيدي”.
يهبط الأستاذ، يتقدم نحوه أحد الخدم، ويقوده إلى ساحة ضيقة، وضوء خافت
ينبعث من مِصباح زيتي قديم، يحس بسكون حزين يشيع، كما لو كان يتحرك ليلاً في ساحة
سجن، يسرع الخادم أمامه، يصعد سلماً ملتوياً، والأستاذ في أعقابه. يقول “أرجوك
أن تخبرني الآن فيما يريدونني؟”.
يلتفت الخادم إلى الأستاذ، وهو يضع إصبعه على شفتيه، وعند باب في نهاية
دهليز ضيق طويل، يطرق الخادم الباب في هدوء، يتسرب صوت واهن من الداخل: من أنت؟.
-لقد وصل الطبيب يا
مولاي.
-دعه يدخل.
ينفتح الباب، يفيض الدهليز الضيق بضوء براق يغطي الدكتور “مينا”
وجهه بيديه، وبعد لحظة يعاود التقدم نحو الغرفة التي تبدو ممتدة وخاوية. يهتف
الخادم في اضطراب “تفضل بالجلوس ايها الطبيب، حالاً سوف يكون جلالة الملك هنا”.
يجلس الأستاذ على أقرب مقعد، يتطلع حواليه في اضطراب وضيق وهو يدرك أن
أمراً مخيفاً على وشك أن يحَل.
يظهر ملك الموت وهو يتجه نحو الطبيب ويقول في إعياء: أضطررت لاستدعائك هنا
أيها الطبيب الماهر، إغفر لي إن كنت قد أزعجتك.
ينهض الطبيب، ينحني للملك، وقد هبط الهدوء بكل ثقة على المكان، وهو يحس بشئ
ساخر يعبث في عقله، فهو أبداً لم يك يتخيل أن يكون الموت كما يراه الان، حقاً أنه
لم يك يتوقع هيكلاً عظمياً يحمل منجلاً ويلتف بملاءة بيضاء، ولكنه كان يتوقع أن
يواجه شيئاً يفوق ما هو طبيعي، كياناً أكثر جلالاً وأشد هولاً غير هذا القزم
العجوز الضئيل الذي جف عوده وغطت التجاعيد وجهه، أهذا هو ملك الموت، ميكروب عضوي
ضخم، لا يعبر عنه إلا ذلك الرداء القزمي الثقيل “إنني أيها الطبيب الأستاذ في
خطر، أنا مريض جداً، وأخاف من أن أموت”.
ينظر الطبيب إلى الموت في ارتباك “لا أفهم ما تقصد يا مولاي”.
-في الحقيقة أنت
تفهمني جيداً، ولكن يبدو ان الموقف غريب، ويبدو هكذا لأن ملك الموت يخشى الموت،
أليس كذلك؟.
-إن جلالتكم تمزح لا
شك.
-لو كنت أمزح ما كنت
بعثت في طلبك، ما كنت وضعت كل ثقتي فيك.
-يا مولاي، لا أعرف
كيف أعبر لكم عن امتناني لهذه الثقة.
-والآن، قم بفحصي، لا
أدري كيف وصل أمر مرضي إلى هذا الحد.
-ربما الإرهاق في
العمل الذي يبدو على كوكب الأرض مخيفاً رهيباً.
-ولم لا والحروب تأكل
الرجال، تمضغ أذرعتهم وسيقانهم وعيونهم، ثم تترك لي مهمة الموت. مهمة صعبة كل يوم
تزيد وتزيد حتى أثقلت كاهلي، قصمت ظهري.
-لا أعرف ماذا أقول لك
يا مولاي، وأنت بالفعل في حالة صحية ليست على ما يرام.
-ومع ذلك عشت حياتي
سليماً كالبحر، ترى هل أصبحت عجوزاً أم مريضاً، إن شيطان الحروب يعلم أن قلبي
يؤلمني وعقلي وأعصابي، ومع ذلك لا يرحم، لا يتوقف، حتى أصبحت أحس بآخر أنفاسي،
فإذا لم تشفني فأنا ميت، وسوف أتوقف للأبد عن ملاحقة ضحايا حروب قادمة، وكوارث على الطريق.
ملك الموت ينكمش في مواجهة طبيب يلهث بعد أن نجح ملك الموت في إثارته،
الأمر إذاً لم يك أضحوكة، فالموت بالفعل يعاني مرضاً، ويا له من مرض غريب مًخادع،
نجح في شق طريقه إلى هذا الجسد المنهار بعد ملايين السنين، حقا إنه أمر لا يمكن
تصديقه، إذا استطاع الطبيب “مينا” أن يشفي ملك الموت، ويخلصه من مرضه
الوبيل وعجزه الخطير، سيكون بلا شك حدثاً صارخاً ومثيراً، سوف يهز أركان الأرض.
وفي لحظة، لم يستطع الطبيب أن يتمالك نفسه، ويفرك يديه في اغتباط “الصبر
يا مولاي، الصبر، ولا داعي للقلق، سنري أولاً ما هو الداء حتى نصل للدواء”.
يشرع الطبيب بالإنقضاض على جسد الموت، يفحص في اهتمام كل جزء فيه، يتحسسه
أعلى وأسفل، وهو يبتسم في رقة، يسأله الملك: ماذا هناك؟.
-لا شئ يثير القلق، لا
شئ سوى عملية جراحية بسيطة للغاية، وبعدها ستكون سليماً يا مولاي كالبحر.
يتطلع الطبيب إلى وجه الموت بنظرة غريبة وقد تأكد أنه على وشك الموت، وإذا
أراد أن ينقذه، فيجب أن يتدخل مبضعه في أوردة قلبه وشرايينه، ومع ذلك فالأمل كما
يبدو ضعيفاً.
الطبيب يتجنب نظرة أمل تبرق في وجه ملك الموت، ويخرج أدواته الطبية وألاته
من حقيبته، يأمر الخادم بأن يأتي له بماء وأقمشة نظيفة، القلق يجتاح الملك، وهو
ينظر إلى ما يحدث حوله: هل تراني سوف أعيش بعد إجراء العملية؟.
-إنها لعبة أطفال، لقد
نجحت في أكثر من أربعة ألاف عملية مثل هذه العملية، إنني أقوم بها وعيناي مغلقتان،
وبيدي اليسرى، وسترى هذا بنفسك يا صاحب الجلالة، أرجوك ألا تخف.
الخجل يعتري ملك الموت بسبب جبنه، قبل أن يسلم نفسه للتخدير، الطبيب يتأمله،
وقد راح في سبات عميق.
“أخيراً وصلت إلى
يدي أيها السفاح العنيد، والفناء الرهيب، إن حركة وحيدة من مبضعي يمكن أن تخلص
العالم من شرورك، وتصبح أكبر خدمة للبشرية، وفرصة نادرة وثمينة لا تعوض”.
يتوقف الطبيب فجأة عن التفكير حين أدرك أن الأمر لابد له من عقل وتدبير.
“لا، لم يك لعواطفي حق الإندفاع هكذا، فملك الموت مريض، وقد ائتمنني
على حياته، إنني ومهما كان الأمر طبيباً، ولست قاضياً يحكم بالإعدام وينفذه، إن
واجبي أن أعالج هذا المريض مهما كان، وأحاول بكل طاقتي أن أنقذه”.
يرفع الطبيب مبضعه وقد ازداد اضطرابه وارتجف بدنه، وهو يحس بمواجهة الجنون،
يندفع الدم إلى وجهه، يدوي الطنين في أذنيه.
“جنون ما أفكر فيه أمام تلك الفرصة الثمينة النادرة التي لا يمكن أن تتاح
لي مرة أخرى، ولكن. هل يمكن لي حقاً أن أنقذ هذا السفاح الذي غالباً ما يباغت
البشر بمنجله دون موعد، هل يمكن لي أن أنقذه حتى يأتي إلى فراشي غداً ويقبض روحي،
لا، إن موت هذا الموت معناه أن أعيش إلى الأبد”.
يمد الطبيب المبضع في مهارة، يغرزه عميقاً في أحد شرايين القلب، ينبثق الدم،
تخمد الحركة في أنفاس الصدر، ينحني الطبيب على الملك، يتأمله، يتأكد من موت الموت.
يغسل الطبيب يديه في هدوء، يتفرس في وجه الخادم الذي انتصب حزيناً بجوار
الفراش يتأمل الوجه الباهت الساكن “من المؤسف أن يموت الملك رغم نجاح العملية،
حقاً تؤسفني هذه النتيجة الحزينة، ولكن ربما اختلف الأمر لو أنه بعث في طلبي قبل
أن تتفاقم حالته”.
تجتاح الطبيب موجة من الإبتهاج رغم صوته الهادئ غير المنفعل، يغادره
الإحساس بالذنب، والشعور بالجرم، لم يعد يتذكر إلا أنه قد أهدى البشرية عملاً فذاً
لم يك في الحسبان، سوف يجعله خالداً على وجه هذه الأرض، حتى كاد يرى العالم ينحني
له تقديساً وابتهاجاً، ويرى صوره وتماثيله تغطي وللأبد جدران المحافل العلمية
والعالمية، وتلمع على صفحات وسائل الإعلام التي سوف تغرقه بالشهرة الداوية كرجل
قضى على الموت، وأحاله إلى ذكرى مؤلمة أنتزعت صفحاتها من كتاب التاريخ.
يصطحبه الخادم الطبيب إلى الدهليز الطويل، والدرج الملتوي مثل أمعاء ميت،
حيث تنتظره في الساحة السيارة السوداء الفارهة.
يتخذ الطبيب مقعده، تمضي السيارة في صمت نحو طريق الجبل، يتأمل الأستاذ
ظلام الليل بوجه باسم، راض بكل ما يحمله بعد رحلة هذه الليلة. وفجأة تدوي صيحة
حادة، تتوقف على إثرها السيارة، لتواجه مارداً ضخماً يقف بجوار السيارة، ليبدو ظله
ضوء ناصع تشوبه الزرقة، وقد لمع بجانبه الأيمن منجل عريض النصل، ملطخ بالدماء،
يتقدم إلى الطبيب، ينحني إليه في وقار “عفواً يا أستاذ”. ثم يناوله مظروفاً
كبيراً، فيتطلع الطبيب إلى المارد في دهشة “ماهذا؟”.
-لقد نسيت أتعابك يا
سيدي، وحقك في أن أشكرك على ما تكبدته من مشقة رغم أن..
-لا شكر على واجب، وقد
كان يجب على جلالة الملك الذي أهمل صحته أن يبعث في طلبي مبكراً حتى يمكن ان..
-هذا ما كنت أقوله
دائماً لأبي.
-أتقصد أنك..
-نعم، أنا إبنه،
وبالطبع سوف أرث مهمته، وما يعزيني أنه مات في الوقت المناسب.
-الوقت المناسب؟.
-بالطبع. خاصة أن
مواسم الحروب الآن مزدهرة كما ترى، والضحايا أصبحوا بلا حدود، لهذا فإن مهمة الموت
أصبحت ثقيلة، لابد أن تؤدى بكل الجهود والطاقة. ترى لو أن أبي ظل حياً، هل كان
بمقدوره أداء المهام الجديدة بصحته الواهية وعجزه الواضح، أعتقد أنه كان لابد أن
يرحل حتى أصل أنا في موعدي.
يستدير المارد ويمضي مسرعاً حتى يختفي بين الجرف.
وتنطلق السيارة إلى سفح الجبل.