الزغاريد .. والشهيد
قريباً
الله.. لم يبق منه إلا صورة، وحفنة ذكريات، وبقايا قمر منثور داخل قماش حرير يتاهب
للرحيل”.
تسحب الأم
قدميها الثقيلتين، وتدخل حجرتها المزينة بصورة الكعبة، وآيات الذكر الحكيم. ثم
تعيد النظر إلى صورة الفتى والإبتسامة تملأ وجهه.
كان الفتى يقرأ الكتب والجرائد، يحكي عن بطولات يحلم بحملها. عن وطن لا
يعاني القهر والنزيف، ينتهي إلى الإستشهاد في سبيله. أما أمه. فكانت تراه على هذه
الحال، فتسرع تقرأ الكرسي سبع مرات، والمعوذتين سبع مرات، وتضع المصحف قرب وسادته.
ومع أنها لم تفكر بأن الجنون قد احتل رأسه، إلا أن الجنون كان قد أوشك أن يشل
قواها، حين انتبهت ذات ليلة إلى الفتى يستغيث من خطر الرصاص الذي ينهمر، وفي نفس
اليوم لم تدع شيخاً أو ولياً إلا وزارته طلباً للمعونة.
لم تدرك معنى الحلم. لكنها حاولت الربط بين ما حدث، وبين عودة الفتى قمراً
منثوراً.
لم يك لدى المراة سوى حجرة “حوش” المقبرة، والماكينة تدور،
والأيام تدور. ولما نما عود الفتى وصار قوياً، صار قلق الأم عليه أكبر وهو يحمل
الكتب والكراسات والأقلام، ويتحدث عن وطن تحت الشمس، وعن مكان في مدينة النجوم
الزاهرة، وعن أشياء كبيرة لم تدرك لها معنى في أحيان كثيرة.
صار الفتى يجلب معه العديد من الأصدقاء، يقضون الساعات في الحوش المزدان
بإصص الزهور والصبار، يتحدثون تارة بصوت هادئ، وتارة بأصوات حادة عالية، والفتى
يحدث أصحابه عن الوطن المنشود.
“يا الله. لقد
انطفأ اللهب من عينيه المرسومتين بعناية ربانية، وهو يحكي ويرسم عن الأجواء
المفعمة بالحلم والخرافة والتاريخ. فماذا ستقول للنسوة عنه بعدما صار طيراً من
طيور الجنة؟. وعروسه التي كانت ستزف له، كيف ستتلقى النبأ؟”.
كم من المرات حاولت أن تقنعه بالزواج؟. وكم من مرة أرجأ الأمر، معللاً
السبب بأن الحياة ستكون أجمل عندما تنتهي المعاناة وتشرق الشمس.
“تزوج يا ولدي،
لأفرح برؤية ذُريتك قبل أن أموت، تزوج.. فقد بدات أشعر بالذنب”. وفي هذا اليوم، كادت تقفز فرحاً عندما همس لها
“سوف أدلك على الفتاة التي أحب”.
كانت الأم ترى فتاها مع خطيبته طائرين يزهوان بالعشق والمحبة، روحين
متآلقين. وظلت تقول وتكرر “حقاً إن الأرواح جنود مجندة”. وبسرعة أعدت حجرة
أخرى، وملاءة من قماش الحرير الرقيق، تغطي بها حفيدها في المستقبل. فالملاءة
مباركة، لأنها ملاءة الفتى في طفولته. ولم تنس أن تزور بالمناسبة اكثر من ضريح
لولي من أولياء الله الصالحين.
أمسكت الأم بيد العروس، أدخلتها بكامل زينتها الحجرة التي توهجت بهاءً،
وعُبقت بالبخور، وروائح المارود. وانتظرت النسوة بصمت رحيل جثمان الفتى الذي استقر
عند رأس القبر المقابل لحجرة العُرس.
تقدمت العروس تلثم الزهرات، ووضعت الأم ملاءة الحرير على جسد الفتى، وتطلعت
إلى العروس، ثم استدارت هاتفة بالرجُل “لنحتفل”.
إنطلقت من الأم زغرودة، فزغردت العروس، ثم زغردت النسوة.. وفي تلك اللحظة.
أحست الأم بأن قماش الجسد أصبح بحجم السماء، يغطى الأفق الذي بدا رائقاً، وان
طيراً لا مثيل لبهائه النوراني يخرج من بين طيات القماش، يفرد جناحيه، محلقاً صوب
الجنة.