“سعديه” تفتح الأبواب
تقف في طابور صرف الرواتب، يطلب الصراف وضع توقيعها على كشف الأسماء، تمد
يداً ثابتة، تغمس إبهامها في محبرة الختامة، ثم تضغط بقوة، وللحظات تتأمل شكل
بصمتها، تتأكد من وضوحها على بياض خانة إسمها.
عندما أفتتح أول فصل لتعليم الكبار في قريتها، أسرعت لتسجيل إسمها، غمرتها
فرحة، كتلك التي تعتريها عندما تتأمل طفلاً يرسم حرف الهاء الأول على صفحة كراسته،
ويقرا كلمته الأولى من كتاب القراءة المصورة، وأمام سخرية الزوج، وستة ابناء
أرسلتهم جميعاً للمدرسة، تراجعت، وزعت كراريسها على الصغار، وأبقت على أميتها.
منذ عشرين عاماً و”سعديه” تفتح ذراعيها والبوابة كل صباح في دار
الحضانة حيث تعمل، تستقبل أفواج الصغار بابتسامة عريضة، وكلمات عذبة، وتضحك حين
ينفلتون راكضين إلى الساحة من تحت ذراعيها، ساحبين معهم أطراف ثوبها.
“سعديه” عاملة نظافة، إمرأة مثل الكثيرات من نساء البلاد، تعاني
من أميتها، لكن المشكلة لا تسبب لها قلقاً كبيراً، تتضاءل مشكلتها أمام مشكلات
هوانم متعلمات، تحتك بهن يومياً، حين يسعين لطلب مشورتها في أدق تفاصيل حياتهن،
فتتساءل “ما فائدة العلم إذا لم يمنح الإنسان قوة وثباتاً في المواقف”.
حتى الأخصائية الإجتماعية تلجأ إليها في حل مشكلاتها الأسرية، وتنجح “سعديه”
حيث تفشل الأخريات، تجمع بيدها خيوط المشكلة ببساطة وتلقائية، وكالعادة تعيد
المياه إلى مجاريها.
“سعديه”
إمرأة عاملة، زوجة، أم لا تلفت انتباهها برامج المرأة التي تشاهدها على شاشة
التليفزيون، والتي لا تقدم سوى نساء يتبخترن بأزياء عجيبة، وطرق لإعداد طبيخ لا
تعرفه ولم تسمع عنه.
“سعديه” لم
تقرأ كتاباً يناقش المساواة، وقضية المرأة، ولا تعرف أين يقع مقر جمعية المرأة
العاملة، فهى على الدوام مشغولة بطعام أبنائها ودجاجاتها، تكنس ساحة الحضانة،
وتنظف دورة المياه، تعد الشاي والقهوة للمعلمات، تحل مشكلة من يسكنون معها في
البيت وعند الحارة، وتداعب الأطفال.
لا تتوقف كثيراً أمام علامات الإستفهام “لماذا كل هذه المؤتمرات
والبرامج والجمعيات التي لا تعمل إلا من أجل المرأة وحقوق المرأة ومستقبل المرأة
وتحريرها؟”.
تقفز من فوق علامات الإستفهام، وتعمل وتربي أبنائها، وتتخذ القرارات مع
زوجها ببساطة بعد حوارات قصيرة، ليس فيها عبارات رنانة، تفرح بقوة، تحزن بصمت،
تعمل بإخلاص، تطبق مبدأ المساواة بعيداً عن الشعارات، شعارات تحرر المرأة.
“سعديه”
تسير حياتها ببساطة، بحرية بديهية، بعيداً عن كل النظريات، نظريات تتركها لأصحابها
يتشدقون بها وتمارس هى التطبيق.
“سعديه”
تحزن بصمت عندما يطلب منها الأبناء الذين كبروا بعرقها وفرحها أن تترك عملها لترتاح
بعد سنى التعب، ولكنها لم تك يوماً ساذجة، أدركت أن وضعها كعاملة نظافة يسبب لهم
إحراجاً، وقد أصبحوا من أصحاب الوظائف التي تتطلب وضعاً ومظاهراً وستائر تخفي
ماضياً مشوهاً، ولآنها تحب رائحة العرق وتكره الزيف، تنفض حزنها بصلابة وتستيقظ
صباحاً وعلى ثغرها ابتسامة عريضة، وتفتح ذراعيها لتمر من تحتها شقاوة الصغار، وهى
تركض إلى ساحة دار الحضانة.