الحنطور .. يا عباد الله
تميل الطواقي المتآكلة فوق الرؤوس الخاشعة أمام وحول المنبر، بعد أن تجمع
داخل مسجد القرية عدداً هزيلاً من المصلين. كان أكثرهم من كبار السن والعواجيز،
حضروا لصلاة الجمعة وهم يدركون أن في هذا اليوم ساعة نحس، ساعة سوف تتجلىَ اليوم،
يوم هذا الجمعة بالذاات، فكل المصلين بالمسجد، والمبعثرين في الأزقة، والممددين في
الغيطان، وعلى المساطب والترع، كلهم يعلمون ماذا ينتظر “طلبه سلطان” من
الشيخ “عطيه عوضين” إمام وشيخ المسجد، و”طلبه سلطان” أعلم أهل
القرية بما ستدور حوله خطبة الجمعة، فلم يعد الأمر سراً بعد أن رآه بعض الوشاة عند
محطة المركز، ينتحي جانباً بـ”نعيمه” بائعة المهلبية. رغم ما يعلق بثوب
“نعيمه” من رتق حمراء فاقعة، وما يخدش سيرتها من حكاوي فاضحة، وتصرفات
حرام في حرام، فأسرعوا يلقون بما رأوه في أذن الشيخ “عطيه عوضين”، ذلك
العجوز الناحل الذي يدب على مشارف السبعين، منور الوجه، بادي الطيبة، ومع هذا. لا
يعجبه العجب، ولا يعترف بالمواعظ الفضفاضة ذات الصفة العامة، وعلى مدى السنين عرف
الناس من هو إمام هذا المسجد الذي شهد مولد أكثر أهل القرية، ومولد أكثر الأباء من
أهلها، لهذا أدرك أن من واجبه ان يقصر خطبه ومواعظه على شئون دنياهم، بعيداً عن
التبحر في الدين، هذا التبحر الذي يمكن أن يتيسر لمن يطلبه في الأحاديث الدينية
المتدفقة في برامج الإذاعة وقنوات التلفزة والدش، والأهم الإنترنت والعياذ بالله.
جلس الشيخ “عطيه عوضين” على المنبر، يستمع إلى “درويش
حامد” المؤذن، وهو يرفع عقيرته بالأذان. المنبر قصير من خشب متآكل بفعل
الزمن.
إنتهى “درويش حامد” المؤذن، فنهض الشيخ. قال “الحمد لله .
الحمد لله، الحمد لله الذي هدانا إلى هذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا
الله”. ويصمت الشيخ قليلاً، ثم يعاود “كل جمعة يجب أن أعيد هذه الديباجة،
آما آن لكم أن تحفظوها عن ظهر قلب، هيّه، لك الله يا من قلت يوماً: ونار لو نفخت
فيها أضاءت، ولكن، أنت تنفخ الرماد يا شيخ عطيه، لهذا لن أكمل، سأنتقل إلى الموضوع
رأساً، الحمد لله، الحمد لله، ثم الحمد لله الذي هدانا إلى هذا، وما كنا لنهتدي
لولا أن هدانا الله، الحمد لله الذي أحل النكاح، وحرم السفاح، وجعل لكم من أنفسكم
أزواجاً، لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة.. وبعد أيها الإخوة، قد أصبحت
رجلاً هرماً، عجوزاً، مضى علىّْ في هذا المسجد أكثر من خمسين سنة، خمسين سنة وأنا
أعظكم، واعلمكم مكارم الأخلاق، ولا يظهر عليكم أنكم تتعظون،، كأني يا عباد الله
أدق الماء، أو أعجن الهواء، أو أفرش السجادة بالدعاء، أو أبني قصوراً في الفضاء.
يا إخوان سيرتكم لا تعجبني، خلاصة الكلام، خذوا مثلاً أخاكم طلبه سلطان، أين طلبه
سلطان يا إخوان، لم يأت اليوم إلى المسجد، لماذا لم يأت؟. إسألوه، إنه خائف مني يا
إخوان، خائف أن أحكي سيرته، وأجعلها عبرة لمن اعتبر، وأنتم لا شك تعلمون السبب،
تدركون السِرْ خيراً مني. يا طلبه سلطان إنفضحت أفعالك، والعياذ بالله، لقد رأوك
البارحة عند مقاعد المحطة مختلياً بــ نعيمه بائعة المهلبية، ألف مرة قلت لكم أن
الإقتراب من نعيمه أو مهلبية نعيمه حرام، ولو أن الدنيا دنيا لكان أخوكم طلبه بين
يدي الآن أجلده على الأقل ألف جلدة، ورغم أن هذه النعيمه متزوجة، لكن ما العمل
وبين الرجال والنسوة هوَّة، هنَّ في دنيا، والرجَال في دنيا، نعم، هناك هوَّة،
بينما أنا واحد من الناس.. لما أخذت أم صفيه، وجدت بين أخلاقي وأخلاقها بحراً من
الظلمات، مستنقعاً. كانت قبيحة. اللهم اعف عنا يا عباد الله، ومع ذلك، كبست على
الجرح ملح، وصدق من قال: ما كل ما يتمنى المرء يدركه، تأتي الرياح بما لا تشتهي
السفن”.
وعلى حين غفلة. تتمدد رؤوس صغيرة عبر الشباك المطل على الزقاق، ويصيح أولاد
بأصوات مضطربة، فيغضب الخطيب، ثم ينزل درجتين من درجات المنبر، ينحني حتى يراهم
ويروه، ويصيح “إجري يا ملعون منك له، داهيه تاخدكم، أهذا وقت اللعب يا أبالسه
ونحن مكروبين في هذه الخطبة، إنجروا الله يخيبكم”.
يختفي الصبية، ويصعد الشيخ الدرجتين. يقول “الله يلعنك يا إبليس،
واللهم اعف عنا”.
ويسأل المؤذن الجالس عند قدم المنبر “أين كنا يا درويش؟”.
-كنا في الله يلعنك يا
إبليس.
-غبي، هذا كلام عابر، ولكن الموضوع، أنا أسألك عن الموضوع.
-أيّْ موضوع؟ نحن ما تعرضنا
لموضوع.
يتدخل أحد المصلين “كنا نبحث في أمر زواجك يا مولانا الشيخ”.
يفطن الشيخ، تنفتح أساريره “هاه، الله يكرمك ويفتح عليك، كنت أحدثكم
والعياذ بالله عن مفاسد طلبه سلطان. نرجع دوماً إلى سيرة طلبه سلطان. الشاهد. قلت
له أنا نفسي: لم لا تتزوج يا طلبه؟. فقال: أنا مفلس يا مولاي. قلت له: تعال يا
ولدي أزوجك بنتي صفيه، ولن أكلفك شيئاً، بل سأفرش لك بيتك. أتعلمون يا عباد الله
بماذا جاوبني هذا الخاسر؟. قلب شفتيه، وقال لي في قرف: إعفني يا مولانا. أعفيه من
ماذا؟. هل صفيه بشعة إلى هذا الحد؟. وما الذي يقصده هذا الملعون برفضه الإقتران
بابنتي؟. إبنة الشيخ عطيه عوضين على سِنْ ورمح، هل يريد أن تظل معلقة في عنقي، أن
تبور، أن تلتصق بقرعتي إلى يوم يبعثون؟. هذا حرام، حرام يا عباد الله، لهذا أقول
لكم بصراحة: إن من يتزوج إمرأة لجمالها أذهب الله جماله وجمالها، ومن يتزوجها
لمالها. أذهب الله ماله ومالها، ولكن الزواج يجب أن يكون يا عباد الله للدين
والأخلاق لا غير، فهمتم ياااا. أستغفر ألله العظيم. ومع كل هذا وذاك صفيه ليست
شنيعة إلى هذا الحد، إرفعوا مسألة عرجها الخفيف، تظهر فتاه مثل الغزال. اللهم اعف
عنا، وفوق ذلك تصلي أيها الناس، ولكن، ما العمل وهناك عند محطة القطار نعيمه بائعة
المهلبيه، ما العمل والمرء إذا أعطى نفسه كل ما اشتهت، ولم ينهها، تاقت إلى كل
باطل، هيّه.. لنعد إلى الموضوع، فهمت يا درويش الغبرة، يا مؤذن أخر الزمان معنى
كلمة موضوع؟. الموضوع أيها الغبي يعني البحث”.
يرفع المؤذن رأسه، وعلى وجهه علامات تفكير مشوش، بينما الشيخ يستكمل خطبته
“وبعد يا عباد الله. ما عندي من الأخبار، إلا أخاكم عبده الشحات الذي كما
بلغني أدمن مشاهدة صندوق الشيطان، هذا الصندوق الملون الملعون المسمى التليفزيون،
ومن بعده الدش، وكذلك الإنترنت والعياذ بالله، والذي جعل الشحات وغيره من أبناء
القرية قروداً ترى ولا تفكر، تنبهر ولا تعي، ومن كثرة تعوده على رؤية المسلسلات
الهابطة، والأفلام الخليعة، وما شابه والعياذ بالله، أصبح لا ينادي أمه يا أمي ككل
المسلمين، إنه يناديها ماما والعياذ بالله، وليت الأمر وقف عند هذا الحد، إنه أصبح
يغني ما يطلق عليه في هذا الزمان الأغبر الأغاني الشبابية مثل: آركب الحنطور
واتحنطر ترجن ترجن واتحنطر، واقعد قدام واشد اللجام، واركب الحنطور واتحنطر. يا
إخواني. إن فتح البوز بأغاني التأرجح والتخنث والصياح أركب الحنطور واتحنطر، كل
هذا حرام حرام. والله يلعن الكاذب، والحاضر يعلم الغائب، إن الحنطور يا عباد الله
لم يعد له وجود إلا في الأماكن السياحية، ومن يركب هذا الحنطور يتشبه بالأجانب
والعياذ بالله. اللهم اعف عنا. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم”.
يجلس الشيخ “عطيه عوضين” جلسة ما بين الخطبتين، فيتهادى دوي خافت
بالتكبير والإستغفار، يقطعه الشيخ وهو ينهض للخطبة الثانية. يقول “الحمد لله
رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد خاتم النبيين، اللهم صل على عبدك ونبيك
وحبيبك الشفيع محمد صلى الله عليه وسلم”.
يهلل المصلون “آمين”.
-اللهم انزع من فكره
المِحطة ونعيمه والمهلبيه.
-آمين.
-اللهم انزل في قلبه
الهداية، ومحبة الزواج.
-آمين.
-اللهم الهمه أن يتزوج
من قريتنا.
-آمين.
-اللهم اهد عبدك عبده
الشحات أن ينادي أمه يا أمي.
-آمين.
-لا يا ماما.
-آمين.
-وألا يركب الحنطور
ترجن ترجن.
-آمين.
-اللهم إذا كنت كتبت في لوحك المحفوظ أن يغني ولابد، إجعله يغني تسلم
الأيادي، تسلم يا جيش بلادي.
-آمين.