رنين الصمت

 


رنين الصمت

 

ترتعش أصابعها، تغلق التليفزيون، تقف، تعاند زحمة الأحاسيس، ترنو إلى
ماضيها البعيد، تمسح دموعها الملتهبة، تقبل على دولابها، تخرج من بين دفتيه ألبوم
قديم، تزيل غبار الأيام وتلمسه، ذاك الزمان بأحلامه التي تآكلت كما تآكلت أوراق
هذا الألبوم، وتطايرت مع أوراق الخريف، ولم يتبق منها سوى ذكريات تجترها في
الليالي الباردة.

رجفة متواصلة تنشلها من حاضر قاتم يكتم أنفاسها، ويجثم على صدرها بقسوة،
نظرة حانية تطل عليها من عينين متحجرتين، تتسلق كلمات أمها فوق الموت بدفء واعد
“ما بك يا عزيزتي؟. لماذا أنت حزينة؟”.

      تهتف “أيامي صارت صحراء،
لا ظل، ولا ظلال، أواه يا أمي، كنت أرضي وسمائي”.

-بوجودكم كنت أمتلك
الكون بأرضه وسمائه.

-حواء مثلي أخذته.

-لا، ليست مثلك، أنت
شئ، وهى شئ آخر.

-سلي عقلك وقلبك،
عندهما الإجابة.

-كيف أفهم، أريد أن
أفهم، لماذا؟.

-لم أبخل عليه بشئ،
منحته كل ما يريد، طاعة وحباً، وأولاد، هل يريد الرجل أكثر من هذا؟.

-أنا لم أكن رَجلاً
لأعرف ما يريد زوجك.

-ولكنك كنت زوجة حافظت
على زوجها.

-الرجال يختلفون
بالطباع.

-ولماذا كتب علىّْ هذا
النوع المختلف الذي لا يقتنع بما لديه؟.

-لابد من سبب.

-إذا كان هذا هو الصدق،
فسيعود نادماً.

-كيف ومتى؟. وهو يتلون كل يوم بألف لون، وألف قناع، أصبحت له حكايات خاصة،
وعالم خاص، ودنيا خاصة صنعها لنفسه وحرمني من اختراقها، أو حتى الإقتراب منها، له
قوانين شرعت من أجله فقط ، وهو مستعد أن يدافع عن قوانينه هذه باستماتة، أنا عاجزة،
عاجزة، لا أدري ماذا أفعل، ولا كيف أتصرف.

-الصمت قوة، الصمت قوة،
الصمت قوة.

تنتبه إلى نفسها، تبتسم ابتسامة صفراء، تقهقه عالياً، تضرب كفاً بكف، تقول
“إلى متى، ومن أجل ماذا أموت وأدبَح وأدفن؟. ونفسي تشاهد وتشيع نفسي.

صوت من الداخل يهتف “لتظل لك مكانة في سنين عمره، فوق ارضه وسمائه،
وتظل لك كرامتك وكبريائك”. أية كرامة هذه، وأي كبرياء؟. وخيانته تتجسد أمام
ناظري، أعيشها وأراها في عينيه، في مقلتيه، فوق شفتيه، ملتصقة بخبث في أوصاله
لتدخل شرايينه، وأبعد من شرايينه، ليعود إليّ مجرد جسداً متعباً، مرهقاً، يحملق في
سمائه الخاصة.

تنظر بوحشية متقززة إلى صورة الزفاف المعلقة على الجدار المتصدع. تحس
بسخرية لاذعة تنطلق من داخلها، تمد يدها لتهشمها فوق زمانه، تتوقف قلقة، تهرب من
ذاتها، وتذهب إلى غرفة الأولاد، تحتضن صغيرتها، وتروح تمسح فوق رأسها “ماذا
يخبئ لك زمانك؟. أيكون غدك أفضل من غدي؟. أم غدنا سواء بسواء؟. مجهول،
حائر؟”.

تحس بشئ من الهدوء والراحة، وهى تقبلها قبلة تعتصرها من صدر متأجج، تتوجه
إلى سريرها، عبثاً تحاول أن تنام لترتاح قليلاً من زحمة الأفكار، والأفكار تحملها
فوق السحاب، وتهبط بها إلى الهاوية، ترى القمة، ترى الإرتفاع، ترى السقوط، ترى
الإنحدار. بعد قليل سيعود كأنه لم يغب طوال النهار، وجزءاً كبيراً من الليل، يعود
كأن شيئاً لم يحدث، كأن عطر أريجها لا يلاحقه، وكأن أنفاسها انسلخت عنه، وتظل هناك
في مخدعها، ستواجهه، ستعلنها صراحة 
“أنت يا زوجي خائن مخادع”. لا، لن تفجر القنبلة الآن، ستنتظر،
إلى متى لا تدري، الكتمان قوة المواجهة، ضعف منطق جديد غريب، معادلة مهزوزة
أوجدتها إمرأة رجل خائن، إمراة مغدورة ضحكت لقوتها المزعومة المصطنعة، وصرير الباب
يصل مسمعها، ينخلع قلبها، تحاول أن تستمد من الغطاء بعضاً من حرارة الليالي
الخوالي، تغمض عينيها، موهمة إياه بالنوم، تنتبه لوصوله إلى جانب السرير، لا تسمع
صوت خطواته، لابد أنه سار على أطراف أصابعه. يرفع الغطاء، يتمدد إلى جانبها، تحس
بأنفاسه فوق وجهها (ماذا يريد؟. ألم يرتوي من الأخرى؟.). تخاف أن تفضحها أهدابها،
تفتح عينيها ببطء، تقول بمكر “أنت، متى عدت؟”.

-منذ ساعة أو أكثر،
كنت نائمة. (أآآآه، وتكذب، هل تعرف متى يلجأ الرجل للكذب، عندما تصبح له عوالم
خاصة، وإمرأة خاصة.). تهمس “هل نام الأولاد؟”.

-جميعهم نيام، تفقدتهم
قبل قليل. (عدت للكذب، يالضعف الرجولة، ماذا تريد انت، وماذا أريد أنا؟).

يمد يده. في يده حرارة تفتقدها منذ عهد بعيد، هل تصده؟. ولكن، لا تستطيع،
هى لحم ودم وجسد، المرأة في داخلها تسكتها، وماذا في هذا؟. ليأخذ وهى تأخذ، ليتمتع
وهى تتمتع، إنها تملك ما تملك الأخرى، بل تملك ما لا تملك الأخرى، عقد شرعي وإقرار
سماء.

تستريح بعض الشئ، تسمع همسه “حياتي”. (أما زلت مخموراً
بألفاظها؟. مضت سنوات لم تقلها، أدر وجهها، تفرسه طويلاً، تأمل، قارن أينا أحمل،
أنا، أم تلك، مرآتي قالت أنني أجمل إمرأة في الوجود، مرآتي لا تغش، وأنت قلتها لي
ألف مرة، ولكنك غدرت.).

تتقلب، ويتقلب من اليمين إلى اليسار، ومن اليسار إلى اليمين. (انا الآن
ملكك، وأنت ملكي، لم أخنك يوماً، لم يطأ هذا الجسد أحد قبلك، ولن يطأه أحد بعدك،
أما تلك، أنت تعرف أنها كومة رخيصة قذرة، لا تتهرب، هذه هى الحقيقة، فأنت تعلم أن
من تسلم لواحد تسلم لغيره، وغيره وغيره، أرايت بماذا أنا أفضل منها؟. بالنقاء،
بالطهارة، بالعفة.).

يقول “لماذا أنت صامتة، تكلمي قولي أي شئ”. (أكل ما قلته لم
يصلك؟. أصمتت أذناك، فلم تعد تسمع إلا نفسك، ماذا تريدني أن أقول؟. أنا إن فتحت
فمي أحرقت عالمك وعالمي، خير لك ولي أن أظل صامتة، وأن يظل هذا الفم مغلق، مغلق
حتى أجتاز جبروت أيامك وغدرك،. ثم ماذا أقول؟. أأقول “حياتي” وإن كنت كل
حياتي، لن تسمعها مني ما دامت إمرأة أخرى في حياتنا، أأقول “حبيبي”
كيف؟. كيف وأنت تخونني معها؟.، أنا لا أراك، أنت مجرد طيف، أرأيت؟. بتَ طيفاً ليس
إلا منذ هجرت محرابنا ولجأت إلى الرذيلة، أصبحت بطولك وعرضك مجرد صورة باهتة بلا لون،
بلا طعم، هل تعرف ماذا يخطر ببالي الآن؟. أن أدفعك في عز نشوتك ونشوتي وأصرخ
“إبتعد، أغرب عن وجهي، أنت طالق، طالق، طالق”. كنت ستقولها لو تبدل
الأمر، وتغير الحال، كنت ستفعل أكثر من هذا، لماذا؟. لآنك الرجل، ولأنني المَرأة،
ولأنني المرأة.. لابد أن أضع شماعة لاصقة فوق شفاهي وعيوني كي لا أرى عيونك أيها
الرجل، وأنت لابد أن يكون لك مجهر كبير لتضخم توافه الأمور وتبالغ، ومجتمع يبارك
الفحولة في جسدك.).

وتنتبه إليه يشعل سيجارة، ويعود ليتمدد إلى جانبها. يقول “غداً سيحضر
طقم نوم حديث، وهناك طقم عطر باريسي جديد في الأسواق سيقدمونه هدية”. (طقم
نوم، طقم عطور، هذه المرأة بالنسبة لأمثالك نوم وعطر وجسد وأريج، هل تحسب أنني
تزوجتك من اجل هذا فقط؟.. مجنون وخائن لا تدري ماذا تريد المرأة من رجلها؟.. أنت
جبان في داخلك، أرنب، نعم، أنت تخافني، وتخاف أن تقوم الواقعة، ومن أدراك ما الواقعة؟.
أنا قوية بصمتي، وأنت ضعيف بغدرك، أنا أقوى منك وستظل في دائرة الرعب مرعوباً، لا
تدري رأسك من قدميك.).

تريد أن تتكلم، تحس بضيق شديد، تقول “نم، الصباح رباح، أنا
متعَبَة”.

-لابد أن نتكلم.

-تكلم، أنا أسمعك.

-أنااا.. (ويمسك).

-أنت ماذا؟.

-لاشئ، لا شئ.

-أنت حر، عندما تريد
أن تتكلم سأسمعك، حتى لو كنت مرهقة ومتعبة.

-أنت دائماً مرهقة
متعبة، وكأنك تقطعين الصخر.

-وأكثر.

-بسبب عمل البيت، كيف
لو كنت إمرأة عاملة؟.

-لربما تغير الحال،
العمل الجسدي أمره هين.

-ماذا تقصدين؟.

-لا تجرني، لا تستدرجني لحدبث غير راغبة به، سيأتي يوم ونتكلم بصراحة عن كل
شئ.

-ولماذا لا نتكلم الآن،؟.

-قلت كفى، لا رغبة لي
في الحديث، سأنصت فقط.

-حسناً، لك ما تشائين.

أحست بالإنتصار، لقد تغلبت عليه، وأرغمته على السكوت. 

تنام متفلبة، وينام متقلباً،. في الصباح بدا لها عادياً هادئاً، لا أثر
لانفعاله في خطواته، أو حركاته. تجلس قبالته وهو يلتهم طعام الإفطار. (ترى ما الذي
يدور في رأسك؟. أتفكر بليلتنا، أم تراك اعتبرتها نزوة من نزوات طيشك؟.. هل غابت
الأخرى عن وعيك، أم ظلت تلاحقك حتى في مخدعنا؟.).

تقف تودعه عند الباب، منذ عهد بعيد لم تفعل هذا، منذ أن داهمها تيار جنوحه
وعصيانه وتمرده.

يمر اليوم كغيره من الأيام، دموع وأمل ورجاء، تفضم أظافرها، وتعود لتقضم
ذاتها،. وبعد الظهر تجلس مع الأولاد إلى جانب المائدة، تقول “سننتظر
والدكم”.

تقول الصغيرة “أبي لا يعود إلا ونحن نيام”. (حتى هذه باتت تعرف
مواعيدك.).

تقول “لا بأس. ننتظر قليلاً”.

تقول البنت باحتجاج “أنا جائعة يا أمي”.

يقول الإبن الأصغر “أنا جائع”.

يقول الأكبر “نأكل نحن، وعندما يأتي يأكل لوحده”.

تصيح بعصبية “أنا أحس بالعطش”.

يقولوا جميعاً “الماء أمامك”.

تنظر، تحس بارتواء دون أن تلمس الماء.

وقع خطوات قادمة، أمل وفرح يتراقص داخلها، وفوق المائدة أحلام وردية تعبق
بالمكان، الجدران الضيقة بدأت تتسع وتتسع، هرعت تطل من خلف الستائر الملونة التي
بدت ألوانها زاهية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *