كان
وجود الزمزمية في نطاقي مملؤة بالماء، من شأنه أن يدرأ عني، لمدة يومين على الأقل،
خوف الموت عطشاً.
أنهض
ببطء، وأشد خطاي باتجاه الغرب الأخضر، ظلي يتبعني، أما عن وجودي وحيداً في هذا
الإتساع اللا نهائي الأصفر، ومع تلك الرتابة والضعف، ظل يملؤني بإحساس الضآلة والوحشة
والضياع، فأمشي مشياً أقرب إلى الهرولة، رغم غوص قدماي في الرمال مع كل خطوة
أخطوها، ومن وقت لآخر، أجلس قليلاً، وأنا أرفع الزمزمية إلى فمي، مبللاً شفتاي بقطرات
من الماء ثمينة، وفي إحدى المرات، وأنا جالس بجوار صخرة أسند عليها ظهرى، أحس بأن
شيئاً ما نخزني في رجلي، فأعتقد أنه عود، أو رأس خشبة مسننة من الشجيرات القزمية
القريبة، إلا أني أشعُر بأن هذا العود أمسك بجلدي إمساكاً، لكن انهماكي في وضعي
البائس، يحول دون اهتمامي به، وأعتبر الأمر عادياَ، وبعد قليل، أتذكر بأن الشئ
الذي دُست عليه، كان طرياً جداً، فأرجع إلى الإهتمام بما حدث، ذلك أن رجلي أخذت
تؤلمني، فرفعت بنطالي الممزق، ولمست مكان ما اعتقدته عوداً، فوجدته لزجاً جداَ،
بثقبين اثنين بجوار بعضهما، فتيقنت بالفزع المكتوم أنها لدغة أفعى، وفي الحال، تغيم
نجومي الصغيرة، وأتشهد بفزع، ومسرعاً إلى سونكي البندقية الذي كنت قد احتفظت به، ثم
بدأت في تشريط مكان اللدغة، وأنا أنحني بشدة، محاولاً مص الدماء وقذفها بعيداً،
وحالما نجحت إلى حد ما، أخذت في ربط مكان ما بعد اللدغة بشريط شاش كتقي المصابة،
وعندما لم يتوقف قلبي، أيقنت بأنها بالفعل أفعى، وليست حية طريشة الرهيبة.
أواصل
السير اللاهث الملسوع، ولكن، يزداد الوجع، يتبعه آنين، وينتابني هاجس بأني هالك في
النهاية، لا محالة، فأتشهد، والدموع تملأ عيناي، حزناً على مصير أسرتي وأهلي من
بعدي.
كانت
الشمس في لون البرتقالة الناضجة، وفجأة. يلوح على البُعد مجموعة كبيرة من الأشباح،
مشدودة باتجاه الغرب الأخضر، تعلو طريق أسفلتي غائم، فأفرك في عيني بشدة، غير مصدق المشهد
الشبحي الضبابي المخيف. أهمس(هى ولا شك تخيلات ما قبل الموت.). ولكن، أسرع الخطى
باتجاه تلك الأشباح، وأنا غير وجل للمرة الأولى من أي شئ قد أجابهه، فأصل إلى رتل
من جنود ممزقي الثياب، تبدو كآثار خاوية محطمة، كأعقاب الأعمدة الخربة، فأخذ أأتطلع
إلى الوجوه الغريبة، فلا أرى إلا آثار استغراق في النوم، كأنهم صرعى أفيون، حتى
أنه لم ينطق وجه واحد منهم بمعنى إنساني.، فبدت النظرات مني شاردة، لا مُركزة،
تتحول إلى نظرات أكثر تحديداً وتركيزاً، يشع منها الأمل الذي تتهلل له أسارير وجهي
الناتحة بالعرق الغزير، وفي لحظة أدس نفسي وسط الجنود التي أجدها تتهامس فيما
بينها في جد، أسأل: ما الخبر؟. فيتطوع أحدهم بشرح سر هذا التحول: وجدنا سوق به
طعام وشراب. ثم يستدرك: وفي البحر مركب، تنتظر حملنا إلى بيوتنا. وعندئذ، أظن
بالجندي الجنون، فأتركه إلى آخر، فيجيبني بذات الرد، إلى ثالث، إلى رابع، إلى خامس،
الجميع يجيب بذات الرد. فأستميت في مقاومة دوار رأسي، ثم أنخرط بلا مبالاة وسط
مجموعة الجنود، وانا ونصيبي، ومع أخر خيوط النهار، لا أجد الجنود من حولي، ولكن تلوح
عند الأفق عدة خيام مهترئة بائسة، فيدب في نفسي أمل حقيقي، حالما أجدني داخل سوق
كبير، ومجتمع إنساني بدوي يعيش وسط الهلاك، ومع صوت قأقأة الدجاج، وصياح الديكة، ونباح
الكلاب، ومواء القطط، وصأصأة العصاافير، أوقن بأني لا زلت في عداد الأحياء، والجنود
في كل مكان من حولي، مضطجعون، وهم يأكلون ويشربون ويدخنون وينامون ملء الجفون، في
حين أشعر أنا بالجوع، ليس ما تعودت عليه خلال الأسابيع الماضية، والذي يمكن إسكاته
بالبطيخ، أوعصارة الجريد، أو حبات العنب البري، بل جوع حقيقي جشع، يطلب طعاماً
حقيقياً.