الجندي عواد ينفجر في نحيب


أعدو
وحدي إلى الأشجار الصغيرة، أقلب أوراقها، باحثاً عن لا شئ يمكنه تخفيف الألم عن
العجوز المسكين، ففكرة أن يموت أحدنا بطلق ناري أمر وارد، أما أن يموت بالسم، فهى
الفكرة المروعة، وكأن للموت هنا مذاقه الخاص، مذاق نزف الدماء لا غير.

يهدأ
جسد العجوز لوحده، ويصمت الآنين، وجهه أصفر شاحب تماماً، وتتجمد على جبهته قطرات
من العرق كبيرة وباردة، صدره يعلو ويهبط، فنجلس حوله صامتين.

تميل
الشمس في اتجاه الغرب الأخضر، ونحن نتبادل كلمات متناثرة، لا معنى لها، والصمت هو
السيد الذي ينقل الحوار بين عيون شاردة، وألسُن جافة لاهثة، وأمعاء خاوية، وحلوق
جافة.

يمُر
يوم، ويأتي آخر، يكشف عن يوم جديد، يوم رابع، ونحن، رغم كوننا موتى بالفعل، موتاً
نفسياً، ولكننا نظل نكافح لعل العمر يمتد بنا دقائق أخرى، ولا يفكر أحدنا أن يسأل
الآخر عن شئ، فكُلاً منا، بالنسبة للآخر، كالجزيئي، يحاول التجمع مع جزيئات أخري،
لصنع جسم متماسك ومتعاون، ولكن، لم يعُد لأي منا إسم، أو هوية، ورغم ذلك، يظل يحلو
لي، من حين لآخر، النظر إلى الجندي شريف، أكثرنا ابتساماً، الذي يذكرني بإحساس المراقب
الفضولي الذي عشته طويلاً، ما بين اليقظة والحلم، وأعيشه الآن مع صحبتي (تخرج من
كلية العلوم، قبيل اشتعال الحرب بأربعة أيام، ووصل إلى وحدته مساء يوم الحرب، لم
يكُ قد أسند إليه عملاً بعد، إذ وجد نفسه فجأة يُقصف بالقنابل، والناس من حوله
يتساقطون، لم يكُ يعلم لماذا؟. أو ماذا عليه أن يفعل؟. بل لا يدري أصلاً لماذا قذف
به الزعيم وتابعه إلى صحاري سيناء، في عملية حشد مظهري، لم يشهد لها التاريخ
مثيلاً؟. وبالتالي. لم يسأل: ماذا بعد؟.).

أما
الجُندي عواد (فقد تخرج من كلية الطب قبل عدة شهور مضت، يبدو كالنبات المعتنى به
جيداً، في صومعته المحمية، ذي حياة مرفهة، بأكثر مما تحتمله حياة الجنود، يدُل
خاتم في يده اليمنى، أنه مرتبط بخطوبة إحداهن، ويظل الإحساس بالضياع المصحوب
بالدهشة لما نحن فيه من تشرد يعتصره، ويحتويه معاً، ومع شعوره الطاغي بالضعف
منفرداً، الذي يدفعه إلى السير وراءنا بجسده القصير النحيل، غير مشارك، فيصبح لنا
كالظل.).

وها
هو الجندي عواد ينفجر في نحيب طويل، عينيه بلون الشمس، ذات أهداب طويلة مرتعشة،
وفم مزموم، ويخرج من خلال الأسنان صوت بكاء كالأزيز، وتدور عينيه في محجريهما،
لتستقر على النائم المحتضر، وهو ينظر إلى الأفق اللا نهائي الأصفر، وفجأة تنهمر
دموعه على خديه، ثم بخفوت: ما الذي أتى بي إلى هنا؟. ماذا أفعل الآن؟. وما العمل
في مصيبتي تلك؟. هل سأمكث هكذا حتى أموت، وتأكلني النسور؟. وتمزق أحشائي الوحوش؟.
ألن أعود إلى بيتي مرة أخرى؟. ألن أرى أمي وخطيبتي من جديد؟. ألن أرى أصدقائي
وجيراني ولو لمرى أخيرة؟.

يقطع
نحيب الجندي عواد، كلمات زميله شريف، اللا مُنتمية: فكرتني بأمي، يا ليت ذكر بط
الآن من يدها، وكوب ماء مثلج، وأنام في حضنها الوثير.     

يمسح
الجندي عواد دموعه، ويتنهد تنهدات عميقة، ثم، وبكُل غضب: بط؟. ألا تري ما نحن فيه
يا شريف؟. هل جُننت؟. هل هذا وقت تهريج؟.

يعقب
الجندي شريف في بساطة وهدوء: أموت وأنا أحلم بشئ أحبه، أفضل ألف مرة من الموت
كمداً يا أخي.


من أجواء روايتي “الأنياب الباردة” الصادرة عن دار نشر “ديوان العرب” عام 2024

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top