فور وصول قائده وهبوطه من الباص العائد به من أجازته الميدانية،
يتقدم نحوه بمحياه الذاوي، وعلى شفتيه إبتسامة مُفعمة بالحفاوة، ضارباً الأرض بكعب
حذائه الميري، فارداً كفة بمحاذاة جبهته، وقبل أن يتناول عنه حقيبة يده الجلدية:
“حمد لله
على السلامة يا أفندم”
“تسلم، كيف أحوالكم”؟!
“الحمد لله يا
أفندم”
“إذن، هيا بنا”
“إلى الكتيبة يا
أفندم”؟!
“لا، نقطة 14”!
ترتسم الدهشة على وجه الجندي
لبرهة، وقد بدت الشمس فى مغربها، يشطرها خط الأفق الى نصفين، تنز اشعتها فى لون
الدم المُحتقن، ثم بانتباهة:
– تمام يا أفندم.
يستقل القائد العربة (الجيب)
بجوار سائقه، وبعد لحظات، تثب، تتراجع، تنفث دفعة من الدخان، تستدير نحو الشمال، قافلة
من البواخر عن يسار العربة,, تعبر ببطء نحو الجنوب، على صفحة المياه آلاف من قروش
الضوء، تقيم حفل راقص من باليه بحيرة البجع، المياه
زرقاء، فيها يود وانطلاق ورحيل، جبل عتاقة على الضفة
الأخرى للقناة، لا أثر للغبار فوقه، لطول ما صفعت صخوره رياح الشتاء المنصرم، فبدت
كمجموعة من الرجال تاهت في الصحراء، ثم وقفت تسدد النظر في اتجاه الشرق.
تعدو العربة وسط فراغ الصحراء،
وصفرة الرمال الممتدة حتى حد الأفق، في تحدي خفي للكون، ويبقى:(هل يصبح المبصر
كالأعمى في مواجهة هذا اللا نهائي الأصفر؟!).
لولا التفاتة رأس السائق -بين فينة وأخرى-
لظنه القائد في إغفاءة، العربة بمفردها على الطريق، لا يطرأ أي تغيير على وضعية السائق الصامت، منعطف عليه عمود إسم بقعة وصول،
يتسع الأفق وراء منخفض يستقبل العربة بكآبة، طائرة هليكوبتر ترتفع في خط منحنى إلى
مركز الكون، تبدو كنقطة بيضاء، تُغير اتجاهها، تهوي، كأن الطيار قد فقد كُل سيطرة
عليها، تستقيم، تطير في اتجاه معاكس، يختفي صوتها!.
ينزل
الليل هادئ، ناعم، كوبر قطيفة، يخفي ملامح أشياء، يذيب رمال وصخور وبقايا نهار،
يخيم ظلام، يضيع في غروب بعيد، تقترب العربة من الممر الجبلي، وهناك:(ماذا لو
أحصينا عدد من قتلوا هنا دفاعاً عن الوطن؟! ومنذ أن نزلها الإنسان؟! بالتأكيد سيصدر
بهم بياناً تستمر إذاعته مائة عام بلا توقف، نموت ولا ندرك آخرهم!).
يبتسم القائد للخاطر، تنزلق العربة
–برفق- فوق المُنحدر الثعبانى، المُعتم، المُحاصر بسلسلة الجبال الشاهقة، وبين
الحين والحين، تحاول تفادى الإرتطام بأرنب برى من هنا أو هناك، غشى عينيه –للحظات-
الضوء الباهر لفوانيس العربة الأمامية!.
بعد العبور الآمن، يُشير
القائد لسائقه، بالإنتباه أكثر لحقول الألغام وراء الأسلاك الشائكة، الممتدة على
جانبى المدق الترابي الوعر، البادئ من ذيل الممر، وحتى بداية المدق الأسفلتى
الناعم، فيبتسم السائق، وهو يشير إلى رأسه:”إطمئن يا أفندم، المكان هنا
كالخريطة”
نبدو العربة كشرارة ضئيلة من الحياة، الليل ساكن، لا يكشف سراً، ولا خبراً، يكفنه ظلام،
واد عن اليمين، يبدو كوعاء ضخم من الرمال والنتوءات، يزداد حفيف شجيراته السوداء، روائح
موت من كل جانب، وثبات أشكال غامضة، هياكل دبابات وعربات محترقة، أشباح قصيرة،
مظلمة، هسيس مخيف، أصوات صراصير، جنادب، عواء ذئاب، نباح كلاب. وعن اليسار، تتوالى
تباب هائلة، وجبلاً يفضي إلى جبل فوقه، كأنها سلالم تقود إلى السماء، سوداء،
متجمدة!.
يمر وقت عصيب، غير قصير، يأمر القائد سائقه
بإطفاء الإنارة الأمامية والخلفية للعربة وإسكات الموتور والإكتفاء بقوة الدفع
الذاتى للعجلات المُنزلقة على المنحدر، حتى لا يشعر بقدومهما أحد في النقطة من
جنود النقطة.
تصل العربة الهوينى إلى مكان البرميل الموضوع على جانب المدق الدال على
مكان النقطة البادية -من المشهد التحتانى للتبة- كسنام فوق ظهر جمل بارك فى انتظار
صاحبه، أو كعلم أسطوري من أعلام الكون، أو كقطعة قضت من صخر تتمنع على من يريد
الإستيلاء عليها، ويبقى:(هل تزحزحها ذات يوم هبة ريح، ثم تأت هبة
أخرى فتزحزحها أكثر، ثم تهوي مع الهبة الثالثة، فتحدث دوياً هائلاً، وهي تتدحرج
بقوة مندفعة إلى القرار؟! أم تبقى في مكانها رغم الزوابع والأعاصير؟!).
يهبط القائد من العربة في
هدوء، يتقدمه السائق، وهو يشير للقوس الذي يشابه قوس النصر، الدال على بداية المدق
الصخري الصاعد بلولبة، حيث تكمُن النقطة عند قمة التبة، والتي يبلغ ارتفاعها ما
يزيد عن 40 مترا.
يتخطى القائد صهريج للمياه عن
يمينه، ثم يغوص بهدوء من فوهة القوس، ويتقدم على الرمال لعدة أمتار، ثم يصعد على
المدق الصخري الوعر.
بعد عناء شديد، ووقت غير قصير،
يصل القائد إلى النقطة بنصف انتصابة، وفي لهاثه:(كان الله في عون الجنود). ووسط
العتمة والسكون، يهمس الجندي لقائدة:”يبدو يا أفندم أن الجميع في سابع نومة”؟!
بلهاث عال:”سنرى، خطي
ورائي، وخذ بالك من السلك الشائك، والخندق”
بخطوات حريصة، وتحت نجوم
تتغامز فيما بينها، ترسل ومضات قصيرة، يكاد القائد أن يزحف، بمحاذاة حائط النقطة،
ومن الداخل، يتسلل الى سمعه سرسوب من صوت لأغنية تلون المساء، فيميل الجندي على
قائدة:
“مزاجهم عال يا أفندم، ولا على بالهُم”!
يمتعض القائد من
إشارة الجندي ولا يلتفت إليه، ويمضي في طريقه، يغريه الهدوء الشامل، وخلو المكان
من الحراسة الليلية، عازماً على سحب التليسكوب الميداني من على منصته والهبوط به،
وفي تلك الحالة، يحق له أن يُعاقب أفراد النقطة على إهمالهم الجسيم، وأن يقدمهم
لمحاكمة عسكرية.
يرمى القائد نظرة (صقر) على
مكان التليسكوب المخصص لمراقبة السماء، والتأكد من خلوها من أي طائرات دخيلة، فلا
يجده على المنصة الأسمنتية المحاطة بسور واطئ نصف دائري، فيهمس قائلا:
“ما هذا؟! هل باعوا التليسكوب؟! أم نائماً هو الآخر بالداخل”؟!
يكتم السائق ضحكة ساخرة، وهو
يهمس:
“من المؤكد باعوه يا أفندم”!
ينظر القائد إلي تعليق
الجندي في غضب، ويأمره بمغادرة المكان وإنتظاره عند العربة.
يهبط الجندي منكس الرأس، وقبل
أن يتجه القائد إلى داخل الموقع، يفاجأ بصيحة تدوي من خلفه:
“قف، من أنت؟! إثبت محلك، ولا حركة”
يلتفت القائد بذعر مكتوم، ثم
يقول بهدوء:
“قائدك”
“كلمة السر”؟!
“نجمة”
يدق الحارس الليلي الأرض بكعب حذائه، مع خفض
البندقية على يده اليسرى، ووضع يده اليمنى على البندقية، قبل أن يبادر قائده:
“أين التليسكوب يا جندي”؟!
“في المبيت يا أفندم”!
“في المبيت”؟!
“صيانة يا أفندم”!
“وأين قائد النقطة”؟!
“في المبيت يا افندم”
“صيانة هو الآخر”؟!
“لا يا أفندم”
يرسم القائد إبتسامة نحيلة
ثم:
“وأين المبيت، في مكانه، أم صيانة هو الآخر”؟!
يشير الحارس بتقطيبة:
“في مكانه يا افتدم”
وهو يتقدم إلى الداخل:
“إنتبه لحراستك”
يتقدم القائد بهدوء في الممر
الضيق الموصل لمبيت الأفراد، ينحني تحت السقف الصاجي الواطئ، وعند عتبة باب المبيت
الخشبي، المشرع إلا قليلاً، يقف بجانب، فلا ينتبه إليه أحد من أفراد المبيت
المنهمك إثنين منهم في تقطيع العجين إلى كرات ورصها على اللوح الخشبي، المبدور
بالردة، وإنهماك إثنين آخرين في فرد الكرات على سطح طاولة خشبية في رُكن المبيت.
بعد قليل، ينتبه له قائد
النقطة، وهو يجلس على حصيرة رثة، ضاع زهاء لونها إلى الأبد، ويقوم على صيانة
التليسكوب وتنظيفه من الغبار العالق به، وفي ثانية، يهب واقفاً بالتحية العسكرية،
يتبعه باقي الأفراد المذهولين من وجود قائدهم العام فجأة معهم، وفي هذا الوقت من
الليل.
ينحني القائد أكثر على عتبة باب
المبيت، لتجنب إرتطام رأسه بالحلق، الواطئ جدا، وفي الداخل، وعلى ضوء (اللمبة
الكاز) المعلقة بمسمار صدئ على الحائط العاري، الباهت، الخشن، المملوء بالشقوق
والثقوب، يسلم يداً بيد على جنود النقطة، ثم يربت على كتف قائدهم، يثنى على يقظته
ويقظة جنوده، وخاصة الحارس الليلي الذي قام بإستدراجه حتى وقع فى (المصيدة) التى
نصبها له بأحكام، منذ ان شاهده –مع سائقه- يصعدان المدق الصخري كأشباح الليل،
فأفسح لهما، مُتربصاًً بهما، من ثقب الجدار الصاجى لـ (برميل) الحمام الموضوع فى طرف
النقطة، فى الجهة العكسية لممر الصعود والهبوط!.
يقوم القائد –مسروراً- بالتفتيش
على كود الشفرة الورقي، السلاح، الذخيرة، اللاسلكي، البطارية الشمسية الخاصة بشحن
اللاسلكي، التليسكوب، التعيين القتالي، جراكل السولار والكاز، جراكل المياه، أدوية
العلبة الخشبية المعلقة على حائط المبيت، والخاصة بعلاج الجروح والحروق وسمم
العقرب والثعبان، ما عدا(الطريشة) تلك الحيَّة المقرنة التي لا يجدي في علاجها سوى
الكي أو البتر الفوري للعضو المصاب، ولا يفته أن يشارك –وسائقه- الجنود في تسوية
الخبز على (صاجة) الفرن الطفلي الصغير وراء مبنى النقطة، ثم تناول وجبة –خفيفة- من
الجبن الأبيض والخبز الشاهي، الساخن، والختام بالشاي الأسود المغلي على جمر الوعاء
الفخاري، البادي -كحشرة كبيرة نافقة- على التبة المنثورة بالعتمة، بضحكات القائد
والجنود، بخطوات الجندي القائم على الحراسة، بسرسوب جديد من أغنية تلون المساء!.
إنتهت