عنتره يلوذ بالفرار.


يتربع
وشم عنترة بن شداد بلونه الأزرق الداكن على ساعد عصار بك منذ ما يقرب من نصف قرن؛
في هيئته الشامخة؛ قوته الظاهرة؛ إندفاعه الكاسح؛ وكأنه يخترق صدىَ صيحة قديمة؛
أطلقها أيام قهره وذله وسنين هوانه: أنا لا أملك مالاً؛ ليس لي قطيع. أنا لا أملك
إلا هذا السيف الذي لم يرفع قي وجه ضعيف؛ لم يتلوث بدم جبان. إنني يا سادة عنتره
العبسي؛ الذي لا يعرف المكر؛ يعشق النبل؛ لا يقول إلا الحق؛ لا يتعامل مع القول
الفاحش؛ لا ينطق بالزور.

كان
عصار بك فخوراً على الدوام بالوشم. وظل على مدى سنوات صِباه؛ وبداية شبابه يتحين
الفرصة؛ ينتهز المناسبة ليكشف عن ساعده. ليقفز عنترة إلى أحداق العيون؛ وهو يمتطي
حصانه؛ يشهر سيفه؛ يصول على أرض معاركه القديمة؛ يجول في ساحات فروسية لم تشيخ؛ لم
تصََُب عروقها بالتصلب: ليتك يا عصار بك تتذكر ليالي الموالد التي اندثرت؛ زحام
المقاهي العامرة بالدخان والضحكات والسمر والقفشات والنكات؛ مغني الربابة؛ وهو
يتصدر المكان؛ يملأ الأسماع والعيون؛ يوقظ من تراب العدم أبو زيد الهلالي؛ الزير
سالم؛ سيف بن ذي يزن؛ عنترة بن شداد؛ الذي ما إن تهل سيرته حتى يدوي التهليل؛ تهتز
القلوب؛ يزيد التصفيق.

وفي
غفلة من الضجيج والهرج يشمر عصار بك عن ساعده؛ يرفعه تيهاً في وجه عيون سرعان ما
تلمح عنترة؛ تتمعنه؛ تتخيله راكباً حصانه؛ ينطلق تحت ظل سيفه في ساحات الوغى؛ نحو
أحشاء المعركة؛ أحلام الثأر: هل تذكر يا عصار بك يوم توقف مغني الربابة عن
الإنشاد؛ ليقوم من أجل أن يفك ميَّه خلف المقهى؛ وقد ترك عنترة بين جدران الموال؛
مقيداً بالأصفاد؛ ملقى على نار الرمال؛ يتكاثر عليه الأعداء. فيضطر أحد رواد
المقهى أن يقوم منتفضاً؛ ويسرع بفرع شجرة نحو مغني الربابة؛ والشرر يتطاير من
عينيه: فك عنتره قبل أن تفك ماء بولك؛ وإلا جعلتك تعملها على روحك وسط هذا الخلق. ويعود
المغني إلى الربابة؛ يحرك القوس على الوتر؛ يرسم من جديد عنتره؛ بوجهه الخشن
الملىء بالغضون؛ وجسده القوي ينتصب كنخلة؛ ككتلة صخر. وينساب النغم؛ يحطم في رنينه
قيد عنتره؛ ويحرك الفارس في حيوية؛ يصور انقضاضه على مستعبديه؛ وسط اهتزاز الجبال؛
إرتجاج الوديان والتباب؛ إرتعاد الوحوش؛ إنطلاق الطيور المذعورة فوق هامة عنترة؛
وهو يلاحق فلول الجرذان.. فيتصاعد التهليل؛ يدوي التكبير؛ يرن التصفيق.. ومع الزمن
يتوارى مغني الربابة؛ ينخرس صوته؛ تذبل حكاياته؛ وتتناثر؛ ويتوارى عشق عصار بك لــ
عنترة. حين انتقل من خضرة الغيطان إلى جدران المدينة؛ وصار موظفاً بندلق متعباً كالآخرين
على أسفلت الزحام الخانق؛ يتشتت بين الميادين والحارات والأزقة والعطوف؛ والظروف التي
ترغمه على خلع الجلباب؛ نزع الطاقية؛ إزالة الشارب. ومع ذلك ظلت بقايا أصول لديه؛
ظلاً للضمير في عقله؛ جعله يناكف؛ يعافر؛ يثقب مغارات الوصولية؛ يقاوم أفعال
البراغيث في القفز واللذغ ومص الدماء. ليصرخ بعد كل معركة؛ وهو ينتفض غضباً؛ يحترق
آلماً: صدقني؛ إنهم طفيليات؛ مجرد براغيث؛ رغم أنها تؤذيني في عيني؛ أذني؛ أنفي.
إضافة إلى روائحها الكريهة السامة التى تقتحم حياتي كل يوم؛ وأشمها كروائح جثث
محنطة. وتجري الأيام؛ ينقلب الزمن؛ يصبح وشم عصار بك الشامخ همسات خبيثة؛ نكات
زرقاء؛ علامة تشي بأصله الريفي؛ تثير حوله غمزاً ولمزاً. فيضطره الوضع أن يهجر
قمصان النصف كم الهفهافه؛ أن يسكت عن فروسية عنترة؛ أن يلجأ وفي خفية إلى زيارة
طبيب التجميل؛ يصارحه بالمأساة؛ يناشده حلاً للمحنة؛ خروجاً من المأزق: يمكنني يا عصار
بك أن أزيل لك الوشم؛ لكن للآسف سوف تحل محله بقعة مشوهة؛ تشبه أثر حرق؛ ندوب مثل
ما في كعب الحذاء.

-إذن ما الحل فيما
أعانيه من إحساس بالقبح؛ الأرق؛ العار؛ الشنار.

-الأمر لا يكلفك غير
أن تغطي الوشم؛ تخفيه تحت نسيج القماش.

-كيف؛ وأنا أحس بالوشم
في وجهي؛ وليس على ساعدي. لهذا صار عقدتي لدرجة أني أود أن أقطع ذراعي بسببه..

يمتد
بــ عصار بك العمر في أصقاع المدينة؛ في غابات التطلع؛ وقد تعالت مراتبه؛ برد
قلبه؛ تضخمت ثروته؛ ترهل جسده؛ يحلم بــ عنترة المقيم فيه؛ كي يسرج حصانه؛ يرحل
صوب أيامه البعيدة؛ حروبه القديمة؛ وقد تركه هكذا ينجعص بين الموائد العامرة؛
المكانة اللائقة؛ المسكن الفاخر؛ الحياة الناعمة؛ الفراش الوثير؛ الصفقات المحمومة.
وكالعادة يأتي الصباح؛ فيصحو عصار بك من النوم؛ يمضي الى الحمام الدافئ؛ يخلع
ثيابه المعطرة بروائح الليل؛ يتوقف أما المرآة؛ يراقب شعيرات شيبه؛ خطوط تجاعيده؛
تراكم سنى أيامه. وككل مرة؛ يلحظ أن ساعده الأيمن عارياً من الوشم؛ خالياً من
عنتره؛ لا أثر لسيفه؛ ولا لحصانه؛ فيصيبه الذهول: أين عنترة؟. ولماذا لاذ بالفرار
بتلك الطريقة الغريبة؟.

****

قصة
فصيرة من تأليف

عزت
عبد العزيز حجازي

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top