تحسس
بأنظاره الواهنة جهاز الحاسب الآلي الذي استوردته الشركة في اجتماع طائش؛ راح يحدق
ببلاهة في ازراره البارزة وشاشته اللامعة؛ لاحظ من وراء نظارته السميكة رقة خطوطه؛
هدوء ألوانه؛ ونعومة زواياه؛ وجلسته الشامخة في صدر الغرفة التي جهزت من أجل عينيه.
مد
أصابعه النحيلة للأزرار؛ بدأ وهو متردد يحسب أيام عمره منذ ميلاده؛ وحتى تم تخليص
الجهاز من قبضة الجمارك.
أضيئت
الشاشة؛ تتابعت عليها عدد الأيام التى عاشها على وجه هذه الدنيا؛ وكانت 17532
يوماً.
أحس
باللذة تتملكه وهو يرى حياته أمام عينيه بالدقيقة والثانية؛ بعد أن خضع الجهاز
لأوامره بلا مناقشة في حساب هذه العملية الحسابية الضئيلة التي لم تستغرق سوى بضع
ثوان؛.
كتشف
بعد ذهول أن اللعبة مسلية بصرف النظر عن الأرقام الغليظة التي تنتظر الجهاز عند
الشروع في التخطيط لميزانية الشركة عن عامها الجديد.
راح
في عبث طفولي يحسب بعقل الجهاز عدد أيامه
في الشركة مع القلم الكوبيا؛ وطباعة البالوظة؛ وسنواته مع أقلام الحبر وماكينة
الأستنسل حتى توقف عند زمن الحبر الجاف؛ وماكينة تصوير المستندات التي تستطيع وفي
ثانية أن تضع عشرين موظفاً من أمثاله على الرف دفعة واحدة؛ دون جهد؛ وبلا انفعال.
تصلبت
أنظاره اللامعة التي توهج عليها طابور من الأرقام في نظام رائع وتناسق منقطع
النظير.
حاول
في عبثه الصاخب اللعب على عقل الحاسب الآلي بعمليات حسابية تجنح للخديعة وتركن للمغالطات.
إرتفع على الفور أزيز وطنين؛ وأضيئت أكثر من علامة حمراء؛ وبسرعة البرق اصطفت حروف
تقول في وضوح: كفاك عبثاً.
إرتبك.
أحس
فجأة أنه تلميذ بليد ألصقوا وجهه بالحائط؛ وأمروه برفع ذراعيه فوق رأسه؛ بينما
ضربات العصا تلسع مؤخرته الضامرة.
المسألة
كما يبدو جد إلى أبعد حد؛ ومشكلة بلا
حدود؛ وعلى الفور سرىَ القلق في رأسه كحبات رمل تحترق.
ضحك
في صوت كالبكاء وهو يتخيل السيد مدير عام الحسابات بالشركة الذي ظلت أرقام ميزانية
الشركة لعبته المفضلة على مدى سنوات؛ مما دفعه في النهاية إلى الوقوف على تل من
الثروة لا يعلم بسرها إلا الستار؛ الغفور.
داهمه
الخوف كعفار يهب من جبل؛ حين تذكر عمارته الثانية التي لم تستكمل؛ وسيارته
الفارهة؛ وبيته الأنيق؛ ورصيده الذي يحوي رصيداً من الأرقام الصعبة والسهلة؛ وبين
البين.
أحس
بالإرتباك؛ شعر بفزع جامح ينفث جحيماً في قلبه؛ المسألة كما يبدو ليست مجرد
أرقاماً تصطف وتمضي إلى حالها؛ الموضوع سيصبح مأساة لو قام هذا الجهاز بدوره؛ وبدأ
خبث أفاعيله التي لا شك ستكشف المستور وتقطع الرزق.
إرتطم
خياله في زحام الهواجس بمنصة القضاء وغياهب السجون؛ مصادرة الأموال والفضيحة ذات
الجلاجل الرنانة؛ والإنسحاق في زحام الأتوبيس وطوابير العيش؛ والعودة إلى ظلال
الزقاق الذي خرج منه ولم يعد.
إنتصب
في غضب؛ سدد لحو الشاشة لكمة عاتية كادت تحطم عظام يديه؛ صمد زجاج الشاشة ولم
يتهشم؛ وفجاة؛ بدأ الجهاز يعمل دون أوامر؛ وبعد ثوان؛ راى حروف الجهاز تصطف أمامه
على الشاشة؛ وتقول في وضوح؛ وإيجاز صارم كالعناوين: بعد احتراق الغابة لابد أن تسحَق
الفئران.