الصقر والذئب


في أعلى الجبل؛
على شاطئ البحر؛ يزحف ذئب؛ ويرقد في وكره الرطب؛ ويبدأ ينظر إلى أسفل؛ إلى مياه
البحر الزرقاء؛ ثم إلى قرص الشمس الداكن في طرف السماء. قبل أن يبدأ البحر يرسل
بنفحات أنفاسه الباردة؛ يرسلها عالية إلى السماء السوداء؛ وهناك؛ عند حافة الشاطئ
تضرب المياه أقدامها في رعونة؛ وينتشر صدى ارتطام الأمواج المجنونة بالصخور هنا
وهناك؛ ويقع صقر من السماء؛ يسقط في وكر الذئب الرابض؛ يسقط بدمه الذي ينزف؛ ينزف
من صدره وجناحيه؛ وبريشه الذي تخضبه الدماء الباردة؛ يسقط؛ وهو يطلق صرخة عالية؛
ويضرب الصخر –القاسي بصدره الدامي؛ يضربه بجراحه الساخنة؛ وبأنفاسه المتقطعة؛ وفي
ثانية؛ يهلع الذئب؛ ويزحف هارباً؛ ولكنه ينظر ملياً إلى الطير المسكين؛ فيوقن أنه
لا محالة هالك؛ نعم؛ وفي دقائق يصبح سراً دفين؛ ويأخذ الذئب يزحف حتى يقترب من هذا
الحطام؛ ويهمس في أذنه؛ ويقول له: أيها الصقر؛ إنك في النزع الأخير؟.

الصقر: نعم؛
إني أموت؛ ولكن؛ لقد عشت حياة جميلة؛ وارتشفت جرعات السعادة؛ وقاومت بشجاعة
وإيمان؛ وعشت في الزرقاء العالية التي لن تراها قط أيها الذئب المسكين.

الذئب: السماء؛
ما هى؛؟. إنها ليست إلا فراغاً كبيراً؛ فكيف لي بالزحف فيها؟. إن هذا الوكر بدفئه
ورطوبته لأفضل بكثير.

      يبتسم الصقر لكلمات الذئب المملوءة بالحماسة؛
ويقول في نفسه:سواء طرنا؛ أم زحفنا؛ فالنهاية واحدة؛ والكل سيؤوب إلى أمه الأرض؛
ويرقد في ثراها.

قجأة؛ يرفع
الصقر رأسه؛ ويلقي بناظريه إلى أسفل؛ هناك في الوادي الفسيح؛ المظلم؛ حيث المياه
المنسابة من شقوق الصخور؛ وهواء البحر يفوح برائحته الخانقة؛ الشبيهة بهواء قبور
الموتى؛ وبجهد كبير يصيح الصقر في آسف ويأس: أوه؛ ليتني أعود ثانية إلى الطيران
لأحلق طليقاً في الهواء؛ وعندئذ سأمسك بخصمي؛ وأفصل رأسه عن جسده؛ على صدري
المدمي؛ وحينذاك ستغمرني نشوة الصمود.

يقول الذئب في
نفسه:لابد أن الحياة هناك في السماء جميلة؛ ممتعة؛ فلأجل ذلك؛ تتحرك في هذا الطير
هذه النزعات. ثم يقول للصقر عاشق الحرية في لؤم: إزحف قليلاً إلى حافة التبة؛ ثم
الق بنفسك إلى الوادي؛ فربما تحملك جناحيك؛ فتعود للطيران مرة أخرى.

      تنتاب الصقر رجفة تهزه؛ ويطلق صرخة عالية؛
وهو يزحف إلى حافة التبة؛ وما إن يصل إلى الحافة؛ حتى يفرد جناحيه؛ يطلق تنهيدة
عميقة؛ يلق بنفسه من عل؛ وعينيه تبرقان؛ يسقط كالصخر؛ يتناثر ريشه؛ يتمزق جناحيه؛
تبتلعه موجه من موجات الوادي؛ فتغسل دماءه؛ وتلفه في يدها؛ ثم تحمله إلى أعماق
المياه؛ وتظل الأمواج تضرب الصخور بعنف؛ وتصرخ؛ وتهدر في رعونة؛ ثم تتلاشي صرخات
هذه الأمواج؛ وتضعف حدتها؛ وتجف مع دماء الطير الذي تبتلعه الأعماق؛ ويروح الذئب؛
وهو متكوم في وكره يفكر بعمق في موت الطير الذي يعبد السماء؛ ثم يلق ببصره إلى هذا
الفضاء الشاسع؛ حيث تتوالد الأحلام والأمال؛ فتخفف من ألم القلب الكسير؛ ثم يروح
الذئب يفكر:يا الله؛ ماذا كان يرى هذا المسكين في هذا الفراغ اللانهائي؟. ولم كل
هذا الحب الجارف؟. ولم هذه العاطفة البالغة التي تكنها الطير للسماء؟. يا الله؛
ماذا يرون فيها؟. وعلى أية حال؛ كل هذا وذاك أستطيع أن أعرفه خلال رحلة قصيرة إلى
السماء.

      وفعلاً؛ ينفذ الذئب ما صَمم عليه؛ يتكوم
على نفسه حتى يتماسك؛ ثم يهرول في الفضاء؛ وهنا يبرق نوراً لامعاً في قرص الشمس؛
ومعه يتمتم:حقاً؛ إننا خلقنا للهرولة والزحف؛ وهم ولدوا للطيران؛ فكل خلق لما هو
ميسر له.

      وهكذا؛ يسقط الذئب على الصخر؛
ولكنه لا يمت؛ بل يطلق ضحكة ساخرة؛ ويقول:هذه خرافة الطيران؛ إنه السقوط؛ يالهم من
طيور أغبياء؛ إنهم يضيقون بالحياة على الأرض بجهلهم؛ ويحلقون في السماء؛ ويعيشون
في فضائها الخالي؛ ولكن؛ ما السماء؟. أنها مجرد فراغ؛ نور ساطع؛ في الصيف شمس
مسعورة؛ تتغول على أمها الأرض؛ شرهة لا تشبع؛ وفي الشتاء؛ مطر وغيوم ورعد وبرق
وعواصف لا ترحم؛ نعم؛ ليست الأرض كالسماء؛ الأرض تضم وتحنو؛ تطعمك وتؤويك؛ حتى
عندما تصبح بلا حول ولا قوة ولا حياة؛ تداريك في صدرها؛ تترفق بك؛ أما السماء فلا.
فلم هذا التحمس من الطيور؟. ولم تلك الدماء؟. إلا أنهم يريدون الإنزواء عن العالم؛
ويخفون معهم خفقانهم في الحياة؛ وعدم القدرة على الصمود في وجهها؟. يالهم من
أغبياء؛ من بعد الآن؛ لن أسمح لكلماتهم أن تؤثر في مطلقاً؛ ولن أستمع لسخافتهم قط؛
لإني الآن على علم بكل شئ؛ على علم بالحقيقة؛ فقد رأيت السماء؛ فقفزت إليها؛ ولكني
سقطت؛ والحمد لله لم أمت بعد؛ فليس كل سقوط نهاية؛ فسقوط المطر مثلاً أجمل بداية؛
كما وأني لم أيأس؛ بل زدت إيمانا على إيمان؛ فدعهم يتخبطون في أفكارهم؛ هؤلاء
المجانين الذين يحقدون على الأرض؛ لقد اكتشفت الحقيقة؛ لن أخدع مرة أخري؛ ولن أسمع
ألفاظهم الجوفاء مرة أخري؛ لقد ولدت على هذه الأرض؛ وسأعيش وأموت عليها.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top