عُقدة بشنيطة


إن الحياة بينكما لابد أن تستمر على الأقل من أجل طفلكما الصغير.

تومئ برأسها؛ مستسلمة لمنطق العبارة الصارم؛ المدغدغ لمشاعر الأمومة
بداخلها؛ أما هو؛ فقد ظل يمنح بزخ الوعود الفاترة؛ أن يفكر في الأمر ملياً؛ ولسان
حالة يردد في الحفاء: لن أبيع؛ لن أطلق.

لم يكن لها في كل الجلسات العنقودية بينهما؛ غير رغبتها المحمومة في الخلاص
من تلك العربة الفخمه؛ المكومة كالبيت الوقف في الفناء الرطب؛ وفي كل مرة؛ تصيح
بحنق ممرور بالتحدي: إما أنا؛ وإما عربتك اللعينة.

ظل يقدم لها قرابين الحب؛ يلقي فيها قصائد الغزل؛ يمنحها الجديد من
الدلايات: دبدوب؛ عروسة؛ نانوس؛ شريط ملون؛ خمسة وخميسة؛ خرزة زرقاء؛ آية؛ لاصق
ملون من رسوم فطوطة؛ ميكي ماوس؛ الوطواط؛ وبالفوطة الصفراء؛ يمسح كل جزء منها
بنعومة تغيظ؛ والدوران حول تربيعتها؛ كالناسك في محراب معبد عتيد.

نعم خلبت لبه تلك العربة التي إبتاعها لقطة كما يدعي؛ للتموية على ادعاءاته
الدائمة بشح دخلِه لقنص راتب زوجته؛ وما تفيض به عطايا أمها الثرية.

لم يعد له بعد الصفقة المشئومة التي أتمها خفية من الحجج ما يقنع به أحد؛
لتبرير فصوله الباردة معها؛ وإحجامه عن الإنفاق الذكوري الواجب والمستحق؛ وظل سؤال
زوجته بلا إجابة:من أين له الثمن المدفوع في تلك العربة؛ ولما لا يقوم بقيادتها؛
وما دام قلبه خفيفاً كما يدعي؛ فلما ابتاعها من الأصل؟.

لا تشفع له توسلاته المحمومة؛ محاولاته المتكررة لمحو صور ذكرياتها المعذبة
معه؛ أيامه الرتيبة؛ البليدة؛ الخالية من أفعال اللهو البرئ؛ وغير البرئ؛ حتى
الزيارات العائلية النادرة التي كانا يقومان بها؛ لم تخلو هى الأخري في المجئ
والإياب من الحشر في الأتوبيسات المكتظة بالبشر؛ إقتصاداً علي ما يبدو للثمن
المدفوع في توصيله ميكروباص؛ أو تاكسي؛ وتوفيراً لمشاعر الغيرة المحببة والمطلوبة
بشدة بين العرسان في شهور عرسهم الأولي؛ والزوجة لا زالت في كامل زينتها؛ فتنتها؛
حفاوتها برجلها.

تنجح في أحيان كثيرة محاولات حكماء العائلة تهدئة ثورتها العارمة؛ تطييب
خاطرها من فورة سخام المشاعر وغصة الغيظ في حلقها وقلبها بعبارات ممطوطة من نوع:
كله راجعلك يا سِت الكل؛ الصبر طيب؛ بإذن الله سيتمكن من قيادتها يوماً ما؛
لإراحتك على الاقل من عناء المواصلات؛ في ذهابك وإيابك لمقر عملك.

ظنت أن به سحراً أو مساً من الجن؛ وسواساً قهرياً لا شفاء منه؛ بعد أن
التقط مع عربته عشرات الصور الملونة؛ مباهياً بها كل من هب ودب؛ حتى نحتت بالأفواه
كلمة مبروك.

يزيد من هوسة الديماجوجي المريب؛ العجيب؛ رقصة حلمة المؤجل؛ وهو يقودها ذات
يوم؛ مشيعاً بنظرات الإعجاب؛ تراتيل الدعاء؛ الوجوه المشرئبة نحوه من الحقول
والدور المصفوفة على جانبي الطريق الترابي الواصل به لقريته الشمالية؛ بالذقون
المعفرة بالغبار الطافح من عجلاتها؛ بصور ذكرى صباه الأول مع دراجته اللاري
يابانية الصنع ؛ التي كان يتفنن بتبديل ثوب زينتها كل فترة؛ بقصاقيص وخيوط
المِشَمع الملون؛ خاصة مقابض الجادون المقوس لأعلى؛ دلالة تميز دراجته؛ وخيلائه
بها بين الدراجات العادية لرفاق معهده الأزهري وأهل قريته؛ تلك الدراجة العجيبة؛
الشبيهه بدراجات السبق التي ظل يرتوي منها على مدار الأيام الغابرة؛ يحلم بتبديلها
ذات يوم بعربة فارهة؛ ينجعص وراء مقودها الدائري البراق؛ مؤشر عداد سرعتها اللامع؛
الهزاز؛ وهو يشد أنفاس سيجارته من النوع الفاخر؛ ويسند مرفقه الأيسر على إفريز
نافذتها اليسرى الامامية. ولما لم تعد تجدي تخيلات قدرته على الفكاك ذات يوم بعربته
الحلم من بوابة الفناء القمقم؛ بقادرة على فك رباط العقدة بشنيطه؛ وتطييب خاطر
الزوجة المنكودة به وله؛ وبعربته اللعينة؛ الباركة تحت غطائها الداكن؛ السَميك.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top