لا تكف في كل مرة عن ترديد جملتها الأثيرة؛ تلقم بها صوان أذن جدها القعيد؛
المحذر لها من ولوج الأقاصي: لا يمنع حذر من قدر يا جدي؛ خليها على الله.
-بخاف والله عليكي يا عنود من عفاريت البر.
-لا تخاف عليّ يا جدي؛ عنود عاقله وواعيه؛ وربنا حاميها ببركة دعاك.
شروق الشمس هادئ؛ يلقي على الخيمة حمرة عتيقة؛ ملوناً سيمائها بلون نحاسي؛
متغطرس؛ يزيدها هيبة وجلال.
بغندرة تشق عنود جدار الخيمة؛ ماضية وراء سرب الماعز والغنم نحو الأفق
الغائم؛ والتلول المبثوثة على الجانبين مثل قباب المعابد؛ وعند نبع الماء تحط
الرحال؛ بجوار الصخرة التي تشبه صخرة الأكروبول المقدسة في أثينا القديمة.
تتربع الفتاة ومن حولها قطيع الغنم والماعز المفروط كحبات المسبحة؛ وشجيرات
الحرمل والحميض والشيح والقيصوم والشوك والعاقول والسرجل والحمادي قليلة العلو؛
تتكاتف وكأنما تستعد كي تحمي نفسها من رطوبة الغيم والمطر؛ وأشجار أخرى تبث بلا
انقطاع روائح تربنت ونارينج؛ ونباتات أخري لم أتبين كنهها.
تسحب عنود الناي من جراب خصرها النحيل؛ لتبدأ في عزف أعزب الألحان من تراث
البادية.
عظمة سحب السماء وسطوتها لا تقلقها؛ بل تغويها علي امتصاص حمى توتر
الكائنات؛ بلا عدائية؛ محومة في دوائر مكتملة ونصفية؛ يفح صدى تصفيقها الممزوج بنداءها
الصارم: يل؛ يل. في الأطراف والحواشي على رفاق رحلتها؛ تعيدهم من حيث أتوا راضين؛
سعداء؛ نحو براح السهل المبطوح تحت الجبال الراسيات؛ والجد يلتقط أنفاسه اللاهجة
بالحمد؛ وهو يرنو بحبور إلى سرب العائدين.
تقوم الفتاة بتجميع القطيع في تحويطة السعف والجريد والخوص؛ مهرولة إلى
جدها؛ راسمة على شفتيها إبتسامة كابتسامة الموناليزا؛ طابعة قبلة على خده المغضن
بالتجاعيد.
في صباح تبدو فيه قبة السماء كخرقة مبلولة تجاهد في تجفيف نفسها من رطوبة
الغيم؛ يتكئ الجد على فرشتة؛ وبحركة خبيرة يلتقط قصعة الحطب المتوهج؛ يدس بها براد
الشاي؛ وبالتفاته يمط جسده, يعانق بيده مشنة الخبز والتمر واللبن وإبريق الماء.
بين خيوط دوائر دخان سيجارته اللف؛ وارتجافة أنامله؛ ينتفض على هدير الانفجار؛
وهو يرقب على البعد سحب الغبار والغيم؛ ذعر أسراب الطيور؛ يراوده هاجس الرعب؛ ألا
تعود عنود مثل أمها وأبيها؛ فالحرب قد انتهت؛ ولم ينتهي بعد ظمأ الفتك بالحياة؛ وقد
هالهم اكتفاء الرحيل؛ دون ترك ملايين من مخبوء شراك الألغام في الأرض الواعدة.