كفأر مذعور من قطة براها الجوع، وليت هارباً، ففكرة أن تموت، وأنت تجمع الحطب من الوادي الممتد كالصراط، والمُحاط بالجبال والتباب والتلول والهضاب، الشاخصة نحوك كالعفاريت، هى فكرة سخيفة، ومفزعة في آن، فأتى ركوب بساط الريح، والعودة بهرولة إلى سطح التبة، هو الحل الوحيد، للنفاذ بجلدي من الموت المحقق، فالبتر الفوري للعضو الملدوغ استحالة، وحتى إن فعلت، لن يتسع الوقت، فقلبي سوف يتوقف في غضون عدة ثوان لا غبلر.
أذكر حين انصرف عنا رائد عمليات الكتيبة، تاركاً تحذيره من حية “الطريشة”، أن وجدت نفسي، كما لو كنت طفلاً شاخ قبل الميلاد، أو رجُلاً داهمه النسيان، دون أن يتمكن من النظر البسيط على مُحيط من الذكريات خلفه، مُهاجراً حياة الدعة والسكينة، إلى حياة تشبه حياة الحيوان في الغابة، الذي يعيش على قدرات وغرائزه، يستخدمها في الدفاع عن نفسه، وفي الحصول على غذائه ومائه. قلت لنفسي الأمارة بالفزع، ونحن في طريقنا للمبيت بطرف الساحة الرملية للكتيبة (ماذا بعد؟. وما هو القادم؟.). وفي المبيت. أخذنا نتمدد على آسرتنا المعدنية بفرشاتها الخشنة، والقلق على وجوهنا له ملمس ولزوجة، والصمت مُثقل برائحة الرمال، وفي تلك اللحظة. ذهب الجندي “محمود” ليملأ فنطاس عربة المياه من محطة تحلية المياه البعيدة عن الكتيبة بخمسة كيلو مترات، وبعدها. ما لبث أن حل الظلام كلص غريب، لا أرغب في وجوده وسط هذا الخلاء الشاسع للصحراء. سالكاً ممرات وعرة إلى روحي. وعبر شروخ جانبية للنافذة الزجاجية المغبرة للمبيت، تناهى إلى سمعي صوت موتور عربة المياه، وهو يئن ويبتعدً حتى تلاشى في الفراغ الداكن.
كنت أخشى دوماً المساحات الفارغة من البشر، وهو ما حدا بي إلى الإكتفاء بتفريغ مثانتي على جانب من الجدار الخلفي للمبيت، والعودة بهرولة، ولعل السبب في ذلك، حكايات جدتي، وأنا طفل صغير، عن جنية مياه الترعة التي خطفت الوله “”عويس””، والعديد من فتيان وفتيات القرية، واالقفز بهم في المياه العميقة، وعدم عودتهم مرة أخرى. أو حكاياتها عن الساحرة الشريرة “”بابا ياجا”” التي تخطف ضحاياها، وتدق عظامهم في هونها الملتهب. أو حكاياتها عن “أبو رجل مسلوخه”، و”شيخ بحر السندباد”. إضافة إلى”عفريت الطاحونة المهجورة”. وغير ذلك كثير. ومن العجيب، أني كنت أستمتع حينها بسماع تلك الحكايات المخيفة بتفاصيلها، وفي ليلة الحكي، أحرص على ألا أفارق صدر جدتي تلك أثناء النوم، أو صدر أمي في بعض الأحيان.
كان بالمبيت “جركل” بلاستيك مملوء بمياه شرب نظيفة. ولآن الباب كان به ثقوب عديدة، فقد رُحنا نفتش تحت أسرة المبيت عن أي زائر بغيض، لا نرغب بوجوده بيننا، فمن ذا يمكنه النوم، وهو يتوجس خيفة من لدغة ثعبان، أو لدغة عقرب؟.
بتنا ليلتنا بدون إطفاء للمبة الكهربائية، ولماذا نفعل، ففي الغد، الرحيل إلى نقاط المراقبة، ولا نريد، أن نتواطأ مع أنفسنا وضدها في آن، فندعي الشجاعه، في حين يعتورنا الخوف من القادم. ومن أجل هذا، لم أهتم في أخر الليل بفاصل إضاءة فوانيس العربات الثلاثة للكتيبة، عربة المياه، وعربة الجيب، وعربة نقل الجنود، ولا أحد في العربات، أو جوارها، وكأن عفاريت ساحة الكتيبة، يعز عليها أن نغادر، دون أن تقيم حفل توديع يليق بنا. وفي نومي القلق، بعينين نصف مغمضتين كعبنا ذئب، رأيت نفسي كما لو كنت مسائراً داخل غابة كثيفة الأشجار، لا أول لها ولا آخر، تتسرب من خلالها خيوط ضوء رمادي باهتة اللون، والذئاب والأسود والنمور والضباع نائمة تحت جذوع الأشجار، تتثاءب في ملل، غير عابئة بخطواتي المرتعشة الحمقاء التي تلمس بعض أقدامها، وتدوس في بطونها، فلا يصدر عنها أكثر من زأرة، أو هبة على سبيل المزاح. وكان يبدو أنني أعرف كل هذه الوحوش معرفة وثيقة، وأنها هى الأخرى تعرفني حق المعرفة، وأن بينها وبيني وداً قديماً، وأنا أنفذ من أشجار مضيئة رطبة، إلى أشجار مظلمة أكثر رطوبة، حتى امتد فجأة الخلاء أمامي عارياً من كل شئ، والشمس تميل برأسها الذبيح على كتف السِّحاب، تنضح فوقه دماً، فشعرت ببرودة ثقيلة تسري تحت جسدي شيئاً فشيئاً، ثم بدأ المطر ينهمر، وثمة حركات عابثة، لعلها مخالب بعض وحوش الغابة التي تمشي خلفي، وتصير تنهش جسدي المتيبس، وتتقافز على جلدي، ويلامس عنكبوت صغير وجهي، فأحاول النهوض، فإذا بي بين اليقظة والنوم، والضوء العفاريتي يتسسل من النافذة، فأدير له ظهري، وكأن شيئاً لم يكن. وفي صباح الغد. صارت لنا ضوضاء، تعلو على صوت موتور عربة الفنطاس، ومن مكاني بجوار العربة، تحسست رقبتي، فوجدتها في مكانها، وأنا أنظر إلى الضابط احتياط “”خميس”، وهو يقف أمام غرفته الواطئة على جانب من الساحة، معطياً ظهره لنا، وقد لاح لي صدره المجوف، والظهر محدودب قليلاً، والمنكبين بارزين، ولوحي الكتفين الناتئين من تحت سُترته الميري المهلهلة، وعنقه الطويل، وقامته النحيفة جداً، وساقاه الرقيقتان الطويلتان كساقي “الكركي”، فتصورت تلك القامة رقيقة إلى حد أثار دهشتي، حتى كادت تكون لصبي يافع، وفجأة التفت هذا الضابط نحونا، بمحياه الذاوي المكسو بالغضون، ولا أعلم لماذا هذه المرة تغير انطباعي عنه، إذ فكرت بأنه شاب، وقد أخذ منه المكان المنعزل المقفر ما أخذ. وفي الواقع. وأنا واثق من ذلك تماما، أن هذا الضابط ذو الحظ العاثر، في نحو السابعة والعشرين من عمره، ومن الغريب أنه حين تفدم نحونا، بدا كمن يحاول أن يرقص رقصة غير بارعة، والسبب.. هذا العرج الخفيف في مشيته، كعرج الضباع، وحالما أشار إلى العربة. أخذنا نعتلي الممر الضيق بجوار الفنطاس، وعلى مقعد بجوار الجندي””محمود””” سائق العربة، جلس الضابط “”خميس”” بأنفة بادية. وبعد قليل. دار موتور العربة الفنطاس، التي تشبه “الطوربيد”، فزمجرت، وأخذت تثب وتتراجع، لافظة وراءها عدة دفعات من الدخان الأسود، وبعدها غادرت المكان ببطء موكب جنازة، ثم انحرفت يساراً، واعتلت الطريق الأسفلتي الغائم غير المطروق، وبعد عدة دقائق، برز على جانب من الطريق مبنيين حجريين، كل مبنى من دورين، هما لقادة الكتيبة، الأعلى رتبة، وعلى سطح أحد المبنيين، بدا علم المحروسة بألوانه الثلاثة الأحمر والأبيض والأسود، يرفرف بشدة، وبعد مسافة قصيرة، رفعت بصري إلى نور باهت بلا ضفاف، ورمال لا يحدها بصر، ورغم علمي بأن صحراء “سيناء” متاهة، غير أنني كنت قد عولت عليها منذ زمن، أن تكون من نصيبي، وفي وحدتي المتأملة تلك، هتفت بي (“أيها الجندي. مد بصرك، وشاهد الرمال). فمددت بصري إلى أبعد نقطة، فدُهشت عيني، وسكنت، وتاهت من النظر، ومن سفر البصر، فكانت أولى عطايا تلك الصحراء، التي لا تُحصى كنعم الله، فشكرتها بمودة، وقررت الإنصياع، والإرتماء في حضن متاهتها للأبد، تلك المتاهة الخالية من الونس، والتي لم تبدد وحشتها، الخضرة القليلة التي تتشم وجه الأرض، وصفير هبات الريح الفجائية الباردة، الأتية من الوديان المبطوحة، المدفونة في القاع، والخالية من البشر والعُمران، ومن أجل هذا. بدا كون صحراء”سيناء” عصياً عن الفهم، مع أنه في متناول الرؤية والإدراك. وأذكر أنه كان هناك أمير أوروبي، حديث عهد بالإمارة، من يدخل متاهته العظيمة، لا يخرُج منها إلا مُنهك، وقد قيل له: في الباب أمير عربي. فقال: سنجرب اللعبة عليه. وضحك. فدخل الأمير العربي المتاهة صباحاً، ولم يخرج منها إلا في منتصف الليل متعباً، يشعر بالإهانة والتجريح، ولكن، إستقبله الأمير الأوروبي وحياه، وأفسح له في مجلسه، وسأله عن متاهته. فضحك الأمير العربي وقال: متاهتك جميلة، ولكنها ضيقة ومحدودة. سأريك متاهتي أنا بعد حين. وغادر الأمير العربي إلى بلاده، وجهز جيشاً كبيراً، وأغار على مدينة الأمير الأوروبي، وأسره، وأخذه الى حدود تلك الصحراء، وهناك. نزل الأمير العربي عن حصانه وأعطاه للأمير الأوروبي، وقال له: هذا أسرع حصان، خذه فهو لك، هذه هى متاهتي. مشيراً إلى صحراء “سيناء”: أنت حُر. وبسرعة ركب الأمير الأوروبي الحصان، وركض علَّه يهرب. لكن مصيره كان الموت بين تلك الأحجار والصخور الهائلة التي تجلس بأبهة، مجاورة كثبان رملية ملونة، لم يطأها إنس ولا جان، مرمية، بكرم وإهمال، في كل مكان، من عالم يغمرنا الأن شمساً وغياماً وصمتاً وصخراً ورمالاً. عالم يبدو بعيداً، وهو قريباً، الرؤية فيه واضحة وغامضة، والضوء فيه يُنير ويعمي، والوديان والجبال واتباب والتلول فيه، نعبرها بلا حواجز، وبلا ضفاف، وبلا قطرة ماء، وبلا نطفة خضراء تخصب العين. وكأن الطبيعة التي وهبت “تلك صحراء “سيناء” كل شئ، قد أخذت منها أيضاً كل شئ. ولكن. ماذا بقى لي غير أن أنتظر وأنتظر، أتعثر وأتبعتر، وأُدهش من أرض تزاوجت من الغيم والضباب، يمنحاها لونا ×فضيا غامضاً، إكتشفت فيه غموض الفض وبهاتته. وفي وحدتي المتأملة تلك. هتف الضابط “خميس” من نافذة العربة (أنظروا). فمددت عنقي إلى أعلى، فأبصرت سلسلة جبلية بسقت عن الوقت السحيق الذي انفجرت فيه الأرض، وتلوت، وأخرجت من البطن المعذّب، وسط آنات القمم العالية|، والسفوح المنحدرة، واندفعت الجبال الصخرية صارخة، صاخبة إلى أعلى حتى انثنت عند الذرا، دون ما هدف، أو قصد، وتصارعت الجبال التوأمية في آلم يدفع إلى اليأس، ساعية إلى مكان، إلى أن انتصر واحد منها وارتفع، وألقى بأخيه التوأم إلى جانب بعيد وتحطم. وما زالت هناك من تلك العصور في المفازات، قمم جبال محطمة، وصخور مشقوقة مطرودة، وكلما هطلت الأمطار، واندفعت إلى أسفل في تيارات مياه منهمرة، دفعت معها كتلاً من الصخر في حجم البيت، فحطمتها، وبعثرت شظاياها، كأنها الزجاج، أو قذفت بها بضربة عنيفة إلى أعماق الرمال الرخوة، وقد ظلت تقول دائماً نفس الشئ هذه الجبال الصخرية، وظل من السهل فهم قولها، كلما نظر الإنسان إلى الجدران الصلدة الملتوية، طبقة بعد طبقة، والمتوارية المنفجرة التي تمتلئ كلها بالجراح الصارخة، وقد ظلت تقول (لقد قاسينا الشئ الفظيع، وما زلنا نقاسي). ولكنها استمرت تقول هذا بفخار وقوة وتمالك للنفس، كأنها من المحاربين العُتاة، الذين لا تمتد لهم يد الفناء. فيا خالق الحَب والنوى، ما هذه القلعة الهائلة الممتدة، تكاد تلامس السحاب، ولا يمكن الوصول إليها بلا أجنحة؟. ولكن. لماذا تعتلي قمة جبل، كعلم أسطوري من أعلام الكون. فما قصتها؟. ولماذا تبدو كقطعة قُضت من صخر، وتتمنع على من يريد الإستيلاء عليها. ولا تكفي حياة واحدة لإدراك جمالها، وسبر غورها. ولم لا، وهى كصخرة هائلة قائمة بذاتها، ترتكز على قمة جبل. ولكن، كيف ترتكز. كيف تظل ثابتة، لم تسقطها هبات الريح، وأنهار السيول؟. وهل تزحزحها ذات يوم عاصفة، وتأتي عاصفة أخرى، فتزحزحها أكثر، ثم تهوي مع الثالثة، فتحدث دوياً هائلاً، وهى تتدحرج بقوة مندفعة إلى القرار؟. أم تبقى في مكانها رغم تلك العواصف، لآن الله يريدها هكذا، قلعة للمحلربين القدماء.
من أجواء روايتي القادمة “نقطة 14 مراقبة”