عيون الأبواب العشرة


ينطفئ في الزاوية؛ كسيل عَرِمْ؛ يحتضنهما أخيراً بحر
بلا حدود. يحمل الأسطى أنبوب باشبور اللهب؛ أنبوب غاز صغير؛
 ويحمل هو هاندباج مفروشة بأمشاط دهان؛ سكاكين كشط وتعرية؛ ملابس عمل
مهلهلة.

يتهادى صاحب المقبرة بعربته السوداء الفارهة؛ يركن
بجوار الرصيف؛ يرحب بهما باقتضاب؛ ومن مبردة مياه الرصيف؛ يتناولا كوبين من المياه
المثلجة.

يرتقي الثلاثي من بوابة المقبرة الحديدية الضخمة؛ وهى
تطل على شارع أسفلتي خال من المارة؛ وبعدة نظرات متحفزة؛ يلمح الزائران على جانبي
المدخل ثمثالين حجريين للزعيم.

كادا أن يفرا؛ وفي نهاية الدهليز؛ يمتصهما دهليز آخر
أقل طولاً؛ وبوابة أخري أقل اتساعاً.

يغوصا معاً في فناء مبلط؛ غير مسقوف؛ في زاويته
القصية مربع طيني علوي مرصوص بإصص زهور وصبار؛ ونباتات أخري لم يتبينا كنهها.

بأحد الأجناب؛ وراء مصطبة أسمنتية؛ يلمحان من نافذة
لإحدي الحجرات بوتجاز؛ وثلاجة؛ والعديد من الطاولات؛ والقزانات الألومنيوم.

ينثني صاحب المقبرة بخصره النحيل؛ على غطاء معدني لامع؛ يدير مفتاح صغير
في  قفل كبير؛ ينزلق وكليهما على درج رخامي
عميق؛ في نهايته يتسمرون في مكانهما وسط دهليز قبو مظلم؛ مبلط؛ ومصفوف على جانبيه إصص
الصبار؛ وأبواب حديدية قصيرة لعيون عشرة؛ يشف ورب بعضها عن جثث ملفوفة بأكفانها
البيضاء المصفرة؛ تتسجى على أرضية رملية؛ بسقف قبابي حجري عتيق.

الجثث رقود؛ تجهل كل منها الأخرى؛ جيران. لكن؛ لا يتزاورون.

وتحت سقف الدهليز المثقوب بفتحات تهوبة ضيقة دائرية؛ يضئ صاحب المقبرة لمبة
كهربائية؛ ثم يشير بيده إلى إحدى الجثث؛ ويهمس في الفراغ؛ وكانه يناجي شبحاً لا
يراه سواه:إبني الظابط.

لا ينبس عاملا الدهان ببنت شفه؛ بل فقط ينظران
برعب إلى بعضهما؛ ثم يستبدلا ملابسهما الفقيرة بأخرى أشد فقراً؛ وبعدها ينهمكا
معاً في كشط صدأ الأبواب؛ ودهانها من جديد بالطلاء الزيتي؛ وتظل تعليمات صاحب
المقبرة الجليدي الطابع والنزعة؛ وسيم وسامة الدمى البلاستيكية؛ وأبيض بياض الشمع؛
والذي له عيون جامدة تشبه عيون الجلادين وممارسي التعذيب في سجون المحروسة شديدة
الصرامة؛ تقصمهما كلما قررا تجاوز رعب التجربة؛ بتقمص منطقة فكر محايدة تنتشلهما
من هوة ذكري زنازين سجنهما القديم؛ بعيون أبوابها الحديدية العشرة كعيون أبواب
المقبرة؛ في تشكيل شرس؛ لم يقو رنين صدى تكشيط الصدأ؛ ووشيش باشبور اللهب؛ على بتر
عناء اللحظات المسكونة بعقلهما عن ماهية الحياة والموت؛ الحرب والسلام؛ القبح
والجمال؛ العبودية والحرية. تراودهما المشاهد تتري من وراء نافذة العربة الفارهة
لصاحب المقبرة المارقة بهما وسط زحام البشر المتسربون من شقوق المدينة كأسراب
النمل؛ تلفهم سطوة الشوارع الصاخبة باللهو من كل اتجاه؛ يدغدغهما معاً السؤال المراود
المُلح: لماذا لم ينبت لكل منا جناحين نطير بهما عائدين إلى
المهد. اللعنة!!!!.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top