السندباد وشيخ البحر
انطلقت سفينة السندباد تشق عباب البحر، شراعها منتفخ كصدرِ رجلٍ يملؤه العزم. كان السندباد، بعد عمرٍ من الأسفار والمغامرات، قد أقسم على ملازمة بيته العامر في بغداد، مكتفياً بثروته وحكاياته التي كانت تروى في كل مجلس. لكنَّ حنين البحر لا يموت، وسرعان ما وجد نفسه مُجدداً على سطح سفينة، تجذبه رياح المغامرة نحو المجهول.
لم تكن تلك الرحلة كسابقاتها. فقد ضربت عاصفةٌ هوجاء السفينة، مُحطِّمة صواريها ومُمزِّقة أشرعتها. تقاذفهم الموج كقِطعِ خشبٍ تائهة، قبل أن يلقي بهم على شاطئ جزيرة مجهولة.
خرّ السندباد على رمال الشاطئ، مُنهَكاً يرتجف من شدة البرد. لم يكن حوله سوى حطام سفينته، ورفاقه المذعورين. بينما كان يتفقد أحوالهم، لمح كوخًا صغيراً يختبئ خلف أشجار النخيل، فنفض عنه غبار اليأس وقرر التوجه نحوه، عله يجد فيه ما يسد رمقهم ويقهم حرّ الليل.
دخل الكوخ ليجد شيخًا مُسِنًّا، ذو لحية بيضاء تصل إلى صدره. رحّب بهم الشيخ بحفاوة، وقدّم لهم الطعام والشراب. وبينما كان السندباد يتناول طعامه، سأله الشيخ عن قصتهم، فأخبره بما جرى لهم.
إبتسم الشيخ ابتسامة حزينة، وقال: “أهلاً بكم في جزيرة النسيان، أيها الغرباء. أنا حارسها، أسكنها منذ زمنٍ سحيق، أنتظرُ فرصةً للعودة إلى أهلي.”
تعجب السندباد من كلام الشيخ، وسأله عن قصته. تنهد الشيخ وقال: “أنا لستُ إنساناً يا بُنيّ. أنا جنّيٌّ من عُمّال البحر، أُجبرت على خدمة شيخٍ من شيوخنا ظلماً. ولما أراد الانتقام منّي، حبسني في جسد هذا الشيخ، وألقاني على هذه الجزيرة، وأخبرني أنَّ لعنتي لن تُفكَّ إلا إذا ساعدتُ إنسانًا على تحقيق أمنيته”.
أشفق السندباد على الشيخ، ووعده بمساعدته. سأله الشيخ: “وما هي أمنيتك يا بُنيّ؟”
لم يتردد السندباد، بل قال دون تفكير: “أمنيتي هي العودة إلى بغداد، ورؤية أهلي وأحبتي”.
هزَّ الشيخ رأسه، وقال: “ستتحقق أمنيتك يا بُنيّ، لكن بعد أن تُسدّد ديْني. اذهب إلى الطرف الآخر من هذه الجزيرة، وستجدُ حجرًا كبيرًا عليه علامة غريبة. احفر تحت هذا الحجر، وستجد صندوقًا من الذهب. هذا الصندوق هو ملكٌ لشيخِ الجنّ الذي سجنني هنا. أعده إليه، وستكون حُرّاً طليقاً”.
أخذ السندباد رفاقه و انطلقوا بصحبة الشيخ إلى الطرف الآخر من الجزيرة. وجدوا الحجر، وحفروا تحته حتى عثروا على الصندوق. أخذه السندباد، وشكر الشيخ، ثمَّ عاد إلى سفينته المُحطَّمة.
وبينما كان يُفكّر كيف سيعود إلى بغداد، ظهرتْ لهم سفينةٌ كبيرةٌ من بعيد. نادوْا عليها، فأقبلت منهم، وكان رُبّانها تاجرًا من البصرة. فرح التاجر بإنقاذهم، ووعدهم بإيصالهم إلى ديارهم سالمين.
وهكذا، عاد السندباد إلى بغداد، بعد رحلةٍ شاقةٍ مليئةٍ بالمُخاطر. لكنّه لم ينسَ وعده لشيخ البحر. فقد أرسل الصندوق مع ثِقَةٍ من رجاله إلى شيخ الجنّ، الذي ما إن وصله الصندوق حتى فكّ سِحْره عن شيخ البحر، وعاد جنّيًّا حرًّا طليقًا.
من مجموعتي القصصية القادمة لليافعين “الأرانب تبيض في ألمانيا”.