قصر ام الشعور

 

.. تبدا العويل ، تمزق شعرها ، تلطم خديها ،
تهرول نساء البيت والبلدة إليها .

..
يبدأ الإعداد للمأتم ، بعد أن دعتهن إلى حفل عرس لن يتم .

..
ورغم كل نيران الإنفعال وأشواك الآسىَ ، كانت تبدو وكأن ما سمعته لم يكُن سوى حلم
مُزعج ، كابوس مُفزع .. وربما كان خطأ ما ، سوء تفاهم ، تشابه في الأسماء .. ولكن
كيف تصورت الأمر هكذا ؟ .. وقد إتصل بها قائد الجماعة . وقدم لها العزاء وأبلغها
في نبرات حزينة واضحة عن موعد وصول الجثة :


أه .. وأه يا ولدي .. يا أيها الصبي الوحيد المُدلل الذي كنت منذ ميلادك بهجة
القلب ، نور العين .. أيها الصبي الذي عشت بعد إستشهاد أخوين لك قبل أن يبلغا حد
الشباب ، يا من لم يشهد أبوك ولادتك .. آه يا ولدي ، يا من لن تعرف خطاك البيت بعد
اليوم ، آه يا ولدي ، يا من كنت طفلاً مطوقاً بالتعويذات والرقي وآيات الله ،
فدُرت بك أبواب المساجد ومقامات الأولياء كي أطرد عنك الأرواح الشريرة ، وأبعد
عيون النسوة اللائي أقسمن بأن هذا القمر البهي لن يكتب له الإكتمال إلا إذا طافت
روحه كل أبواب البلاد كي تتحصن ضد الحسد .. يصبح قمراً منثورأ لن يكتمل ثانية .

..
مضت نحو غرفة العرس ، أشعلت الضياء فتدفق شلالاً غمر صورة الفتى بردائه القاتم
ووجهه المُلثم وهو يقف مع مجموعة من المُجاهدين على قمة تل إنغرس فيها علم بلاده
تحت غيوم رائقة كالماء .

..
كان الفتى يتطلع صوب الأفق في نظرات ثاقبة ، متحفزة .


قصر ام الشعور

 

الليل لما خلي؛ إلا منه؛
لا يعرف لمن؛ وإلى أين يذهب؛ حين يجئ الليل؛ ويسحب الكائنات؛ كل إلى عشه ومستقره؛
ومأواه؛ ووحده؛ يبقى وحده؛ وحوله لا يوجد سوى الظلام؛ واللا هدف؛ آنئذ يعود الليل
شيئاً آخر؛ عمى أصاب الشمس؛ أو غولاً ابتلع الدنيا؛ والناس؛ إذن؛ المشكلة في
الليل؛ والمأوى؛ وفي ليلة شتاء وجدها؛ الشجرة جذعها من جذور؛ ولهذا يسمونها أم
الشعور؛ فجذورها في الهواء؛ تلتحم معاً؛ وتجف ملتحمة؛ وتصنع جذعاً؛ وساقاً؛ تتولى
عشرات السنين تضخيمه؛ وتكبيره؛ وتدويره؛ ليتحمل عبء الشجرة الرهيب؛ ولآن ساقها
جذور متلاصقة؛ فهى لا تكون جذعاً مستديراً؛ مصمتاً؛ ولكن؛ يظل في الجذع فجوات؛ هى
تلك المسافة التي كانت تفصل الجذور. فجوات كبيرة؛ وصغيرة؛ مفتوحة من الناحيتين
مرة؛ ومغلقة أحياناً؛ صانعة عشاً مسقوفا؛ ذا فتحة واحدة.

ذات ليلة؛ وهو سائر؛ بائس؛
ولكن؛ غير باك؛ فحين يصبح البؤس هو الروتين اليومي؛ الليلي؛ الذي لا يتغير؛ لا
يعود الإنسان يبكي بؤساً؛ فالبكاء يجئ أملاً في حل؛ أو استدراراً لأمل؛ أو رجاء
إلى الذي خلقنا؛ أن يهدينا للحل؛ أو بالحل؛ ويريحنا؛ ولو ساعة؛ من آلم مستمر؛ أضاع
منا حتى الإحساس بالآلم.

كان الليل قد بدأ يمطر؛ ثم
بغزارة؛ تروح السماء تصب سيولاً؛ تفرغ الشارع من الناس؛ والدنيا من الونس؛ وتخلق
في النفس شعوراً قوياً بالخوف؛ ورغبة عفيَّة في البكاء.

ولجأ إلى الشجرة؛ يحتمي من
السيول التي بللته؛ حتى وصلت لنخاع عظمه؛ وعلى الضوء الشحيح؛ القادم من عامود ساطع
الضوء؛ رأى الفتحة؛ واقترب؛ وبعينيه راح يتفحصها؛ واستغرب حتى وجد لها عمقاً؛
وكأنها كهف؛ وللكهف؛ من الداخل؛ بروزات؛ وتجعيدات؛ وكأنه فم عجوز؛ يشغي ببقايا
أسنان مصفرة؛ مشرشرة؛ معوجة.

دخَل.

وكأنه إلى قصر منيف دخل؛
فمجرد إحساسه أن رصاصات الأمطار؛ وقذائفها المائية؛ قد كفت عن الطرق فوق رأسه؛
واختراق ثيابه المهلهلة؛ وأنه قد أصبح في مأمن. مجرد إحساسه بهذا يسعده؛ فرحة كبرى
تغمره؛ وكأنه الصعلوك؛ قد أهدته السماء قصراً من شعر ست الحسن والجمال في حواديت
جدته؛ وأنه الشاطر حسن.

واستحلى الشعور؛ حتى أنساه
كل ما لاقاه من طرد؛ وطفشان؛ وصفعات؛ وإهانات؛ وركلات؛ وعمر مديد؛ ملئ بالآلم.

لم يوقظه من شعوره ذاك؛
إلا خاطر عنَّ له؛ أن يكون في مخبئه هذا زملاء من ثعابين؛ أو حيات؛ أو فئران؛ أو
أي مما يعض؛ أو يلدغ؛ أو يلسع. وإمعاناً في إرعابه؛ كان البرق قد بدأ؛ وعلى ضوء
البرق إذا برق؛ والنور القادم من العامود الشاهد؛ شبراً شبراً؛ راح يتفحص أرض
القصر النباتي؛ وجدرانه؛ ولم يعثر؛ إلا على جزء من هيكل عظمي لكلب؛ لا بد وأنه مات
من زمن؛ حين رماه بعيداً؛ وبخرقة؛ عثر عليها أيضاً بالكهف؛ راح ينظف أرضه؛
وأخيراً؛ قرفص؛ وجلس؛ وهو يحس بأنه أسعد إنسان على ظهر الأرض؛ أسعد من أي رئيس؛ أو
ملك؛ أو سلطان؛ أو عاهل؛ أو خادم لحرمين؛ ومن فرط سعادته؛ راح يقاوم الخدر الذي
بدأ يدب في جسده؛ ويقوده إذا استسلم إلى نوم؛ ما ذاقه في عمره أبداً؛ إنه هنا ليس
في مُلك أحد؛ كي يطارده أحد؛ وليس قريباً من سوبر ماركت؛ أو فندق؛ أو ملهى؛ أو
مغفر؛ أو وزارة؛ أو مجلس وزاره؛ أو محكمة دستور؛ أو قصر اتحادي؛ ليأخذوه بالشبهة؛
ولا مُخبر؛ ولا عسكري مركزي؛ يمكن أن يراه؛ ولا إنس؛ ولا جن؛ ولا بشر.

يروح يقاوم؛ حتى يستمتع
بشئ حرم منه على الدوام؛ منذ كان له بيت؛ وكان له أب؛ وكانت له أم وجدة حنونان؛
يجد في حضنهما الأمان؛ والستر؛ والدفء؛ والحماية من كل شرور البشر؛ وحروبهم؛
ومذابحهم؛ وانقلابتهم؛ التي لا تنتهي.

يقاوم الخدر المؤدي؛
حتماً؛ إلى النوم؛ بإرادته يقاوم؛ ومعه البرد الشديد يساعده؛ وكلما أحس بالدنيا
خارج القصر ترعد؛ وتبرق؛ والمطر؛ بإلحاح؛ ينهمر كالشلال؛ ويحس بنفسه محمياً
بالشجرة؛ وحضنها؛ عن هذا كله؛ كلما أحس بشعور الناجي من غرق؛ المحمي في قلعة
حصينة؛ حولها وحوش الدنيا كلها تعوي؛ وتزمجر؛ وهو يخرج لها لسانه اطمئناناً؛
ودفئاً؛ وسلاماً.

وصحا.

قرب المغرب صحا؛ والشمس
إلى زوال؛ وبأيد واهنة وأذرع متراخية؛ يروح يتحسس الجدار الداخلي للقصر؛ كأنه يقلب
بين أصابعه محتويات كنز ملكه؛ وبحوزته.

 ويحس بأنه جوعان؛ جوعاً لم يحدث له في حياته
أبداً.

ولكن؛ كان عليه أن يغسل
وجهه أولاً؛ وبحر النيل إلى جواره؛ والأمكنة وافرة لقضاء حاجته؛ فما أجمله من قصر
فاخر؛ لا ينقصه شئ؛ سوى الحصول على وجبة من أي كيس؛ أو صندوق قمامة؛ وأثناء تجوله؛
يبصر عربة سوداء فارهة تركن أمام الرصيف الرخامي لساحة الحفلات بالنادي الكبير؛ وتلقي
لفافة ورقية مدهنة بجوار سلة للقمامة؛ مشبوكة على عامود النور المعدني؛ المنارة
لمبته؛ لا زالت منارة؛ رغم سطوع الشمس. لا يلق لها بالاً؛ وينطلق قاطعاً مجرى
الشارع الأسفلتي؛ اللامع؛ وبين لهاثه المستعر؛ قبضته المنمنمة؛ فمه الصغير؛ فتافيت
المحتوى الورقي؛ المضمخ ببقع الدهن الداكنة؛ تمتد يداً غليظة؛ باطشة؛ تقذفه؛
كالريشة؛ في خُن إحدى العربات ذات الإشارات المضيئة؛ الدائرية؛ المتوهجة بلون
الغارة الأزرق؛ مارقة به في الإتجاة العكسي للنادي الكبير؛ والعربة السوداء
الفارهة؛ وقصر ام الشعور؛ الشاهق كجبل؛ يصغُر في عينيه الجامدتين؛ كالصخر؛ شيئاً؛
فشيئاً…

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top