أنا .. والمايسترو .. والمعزوفة
يضع عم عبده
فنجان القهوة على مكتبي؛ وهو يثرثر عن قصة لم ينهها بالأمس؛ ومع تعمقه في قصته
يتشكل وجهي.
تنتهي قصة
الساعي المطعون في صحتها؛ ويتحول وجه مدعي الإستماع إلى رسمة سريالية رخيصة؛
مبررها؛ عدم معرفتي بالسريالية.
أقول؛ وأنا
أحاول النظر في الفراغ: أنت تكذب يا عم عبده؛ أنت جهاز إعلامي ضخم؛ مخصص لإنتاج
الكذب؛ أكاد أجزم بأنك إذا أردت الذهاب إلى الحمام؛ تقول بأنك ذاهب للمدير. حتى
قهوتك السوداء تكذب؛ مقتدية بك.
يتغير وجه
الساعي؛ ويأخذ يمسح المكتب بقطعة قماش؛ شاهراً وسواسه القهري:كيف تقول لي هذا؛ لم
تك من قبل بهذه الوقاحة؛ لا أظن أن غبار الملفات سبب لك لوثة.
-إني أتذكر كل كذبة قلتها؛ وكل كذبة لم
تقلها بعد؛ وأمور لم أعرفها.
-ها أنت تتخبط كالمجنون من جديد. كيف
تتذكر ما لا تعرفه بالأصل يا رجُل؟.
-لا أعلم؛ ولكني لا أستطيع أن أنسى ما لا
أعرفه بسهولة.
-لا حول ولا قوة إلا بالله.
(سبب شقاء العالم اختلاف وجهات نظر سُكانه).
أتذكر مقولة عمي؛ وأتحسس وجهي؛
مستشعراً أول صفعة على باب الزنزانة أثبتت تلك المقولة.
أهمس للجدار الصدئ؛ الميت: ماذا لو
تحالف العالم ضدي؛ واتفقوا أن ينزعوا المشمع عن سقفي في يوم ممطر؟
أدفع الحبة الوردية برشفة ماء؛ وأستلق
على الفراش.
ما إن يعلم الصرصار الريفي بنية شريكة؛
حتى يسارع بعزف مقطوعة صرصور نابولي.
أرمى بنفسي على الفراش؛ وأنا أضحك.
هل هذه طريقة سيئة لإقناع السيد
المايسترو بالصمت؟. لا؛ الأمر السئ يكمن في ساعتي البيولوجية الغبية التي ترفض
النوم كل يوم. السوء هو تناول حبوب المهدئ على أمل النعاس.
بعد ساعة؛ يبدأ جاري بالشجار مع زوجته.
تفتح الزوجة النافذة؛ وترسل اللعنات
على زوجها في الهواء الطلق.
أدفن رأسي تحت الوسادة: لعل زوجته
اكتشفت فجأة بأنه كان يختبئ داخل عنجهيته وكبريائه وطيشه منذ قرون.
بعد دقائق: لا فائدة من المقاومة.
أبدا البحث كالملدوغ عن المايسترو؛ أكتشف
مخبأة؛ أشعل ورقة صغيرة؛ وأدخلها بالجحر. أنتظر دقيقة؛ لأتأكد من انتصاري؛ أو من
هزيمة شئ فيّْ.
أنظر إلى الساعة؛ لم يبق على صلاة
الفجر إلا ربع ساعة: سأنام بعد الصلاة. مللت تمثيل هذا الدور كل يوم. متى سأعترف
بأني لم أنم أبداً قبل صلاة الفجر؟.
يضع عم عبده الفنجان؛ ويغادر بصمت.
أنهض
بسرعة؛ وأقف أمام الملفات: حامد؛ هل
جُننت؟.
أهمس بها؛ قبل أن أصرخ؛ وأنا أرمي
الملفات: سبب شقاء العالم اختلاف وجهات نظر سُكانه.
ينادي المدير الأمن؛ بشفقة؛ يصعدون بي
إلى المدير العام.
يتحدث المدير العام من وراء الباب:
أعطوه مستحقاته؛ وأخرجوه من هنا.
يفتح الباب أحد الموظفين؛ ويلج الغرفة؛
فألمح وجه المدير العام: حضرة المدير؛ حضرة المدير.
يهمهم موظف الأمن: لا حول ولا قوة إلا
بالله.
أعود لغرفتي. ألملم أغراضي؛ أفتح
النافذة؛ وأسمع جاري يبكي؛ وزوجته تحاول مواساته.
أستلق على الفراش؛ وأضحك؛ وأبكي.
تجتمع كل صراصير الدنيا المهاجرة في
حقائب أبناء القرى؛ وتعزف في تظاهره أمام جحر المايسترو معزوفة الحرب والسلام.
أستمع لها؛ ولهواجسي القديمة.
أردد مع الأموات والأحياء: لن أعيش في
السطوح العارية؛ لن أعيش. وأنضم للتظاهرة..