ممتلئاً صحة وجاذبية، وفتحت الكتف تكشف كتلة بيضاء ناضرة، فالتة من السوتيان
المشدود، وبين ثنايا السحب المدخنة المضيئة، تُقبل نضرة فواحة، تقف مُختالة في
سكونها، ريانة في حركتها، حتى إذا هزت رأسها لتلملم شمل شعرها. لظهورها زلزلة. أما
رجُلها فقد بدا لونه، لا هو أسمر، ولا أصفر، لون رمادي كلون التراب، وكان طويلاً
هائلاً، يخيف الناس مرآه، حتى سموه أبو الهول، وعمري ما رأيت عينيه مفتوحتين،
وكأنما يرى برموشه، وظلوا يقولون أن قلبه ميت، وأنه لا يخاف ولا يزعل ولا يفرح،
وأنه أقوى واحد في قريتنا، لولا أنه لا يحب إظهار قوته تواضعاً، ومن خشية الله،
وظل كلامه بطيئاً ناعماً، تحس معه أنه ينتزعه من نفسه انتزاعاً، وظل دؤوباً على
جلسة المتعلمين من أمثالي كلما سنحت له الفرصة، ولكنه لا يتكلم فيها أبداً، وظل
الناس وأنا منهم نعرف عنه هذا السكوت، ولا نحاول استفزازه مخافة أن يثور مرة فيقتل
من أمامه، ومع هذا. لا يذكر الذاكرون الأكبر مني سناً والأكثر متابعة وفضول
وملاحظة في قريتنا على كثرة ما فيها من كبار للسن ومؤرخين وذاكرين ومتابعين
وفضوليين وملاحظين، أنه ثار مرة ولا اشتكى، أو توجع. بل ظل له على الدوام من برودة
الأعصاب ما يكفي جراحي العالم، لا يبالي بزحام الطارقين بدعوة أو بدون، لا يبالي
بالمشتهين، شيطانه الكبير أقنعه بان المشهد الأخير لا يتم أبداًً على الأقل في
حضوره الخادع المهيب، ولآن متعة المعرفة لا حدود لها، متعة أن تعلم ما
تجهله، أو تزداد علماً بما تعرفه، فأي أسباب كامنة مستترة؟!. أي عوامل فاعلة؟!. لا
يوحي الظاهر بشئ، هو رجُل بالمظهر
والشكل، لحية وشارب وطول وهيبة، ولكنه فيما عدا هذا أنثوي في كل شئ آخر، في طريقة
كلامه، في مشيته، في التصاقه الدائم بالمجتمع النسائي في القرية، وحتى في سوق الخميس فهو يتاجر في البقر أباً عن
جد، ويغوي شباب القرية بما هو على استعداد لدفعه من نقود، وله سمسار من صعاليك الشباب.
كان هو الذي يجلبهم له مقابل عطاياه، معروف ومشهور، ومحل استنكار من كثير من
المتزمتين وأهل الورع والتقوى، ولكنه عند الناس العاديين بحُكم طول المدة واشتهار
خصاله أصبح يؤخذ مأخذ الظواهر العادية التي لم تعُد محل نفور واستنكار، وإنما
أصبحت فقط محل تندر وسخرية البعض، ومثلاً تضربه الأمهات لأولادهن إذا أحببن أن
يخيفوهم من الميوعَة، أو إطالة الشعر، أو عوجة الطاقية الشبيكه!.
أبداً ما جرحت أمه رجولته، كانت دائماً محل
افتخار به، كُل ما يذكره هو ذلك اليوم المشهور الذي دخلت أمه زريبة البهائم ذات
ظهر صيفي، كان الكل فيه نعسان، أو هاجعاً هجوع القيلولة، هو فقط كان منفرداً في
الزريبة بحمارة خاله الذي جاء يزورهم من النجع الجواني، ولا يزال يذكر تصرف أمه
الذي يعترف أنه كان قمة في الحنّكَة، أو كأنها طبيبة أمراض نفسية، إذ حين فتحت باب
الزريبة ووجدته على تلك الصورة، ورأت الذعر الخجول بز من كل ملامحه وأسال فجأة
غزير عرقُُه. فاستدارت راجعة بأسرع مما دخلت، قائلة له من خلف ظهرها: كيف تركب
حمارة خالك من غير بردعه يا جحش؟!. وهكذا أبرأته أمه حتى أمام نفسه، حتى لا يحس
مطلقاً بأي جرح. أما حين ضبطته خلف كومة الحطب فوق سطح الدار مع الأرمله بهانه
العمشََه التي كانت تجلب لهُم الماء. يومها انهالت عليه ضرباً بالشبشب الزنوبة أبو
صباع واحد، ولكنه أحس وهذا هو ما استغرب له، أنه ليس ضرب غضب، بل يكاد يكون ضرب
أداء واجب، بل إنه أحس أن في ثنايا شتائمها وتأنيبها نبرة تكاد تكون نبرة فخر بما
رأت واكتشفت، كل ما في الأمر أن غضبها كان منصباً على اختياره للأرملة الكبيرة
القبيحة، وليس لأي سبب آخر. أسأله وكُنت على يفين أنه سيسفر: ألا تغار؟!.
يزر عينيه، وفي فروغ بال: لا!.
-لماذا؟!.
-لماذا ماذا؟!.
-لماذا لا تغار؟!.
-ولماذا أغار؟!.
-لأنها فاتنة!.
-فاتنة؟!.
-نعم!.
-من تقصد؟!.
-وهل يوجد غيرها بالقرية،
زوجتك بالطبع!.
يزر عينيه مرة أخرى، قبل أن يقهقه، ثم
وكأنه يجرش قطعة ثلج: أنت بهيم!.
بتكشيرة، وبصوت حشرجة المقبل على الإنفعال
من باب الدعابة لا أكثر: بهيم؟!.
-نعم، ولا تغضب مني!.
-لماذا؟!.
-لماذا لا تغضب مني؟!.
-لا، لماذا أنا بهيم؟!.
ينفث دخان المعسل الزغلولي المطعم بقطع
الكيف الصغيرة في وجهي المأزوم (كده وكده)، ويهز رأسه هزتين قصيرتين موجزتين
متتابعتين، يعقبهما بقهقهة عالية معدنية يهتز لها شاربه الأسود المبروم، ثم بكلمات
لينة تخرج مطمئنة شبعانة لا تشكو قلقاً ولا تعباً، وأنه لا أولاد له ولا زوجة أو
مشاكل، وأنه بالتأكيد له الجنة: لأنك لا تفهم من الأمر شيئاً!.
-فهمني!.
يميل على أذني ويهمس: يا حمار، وهل نقص
منها شئ؟!.
-من تقصد؟!.
يقهقه مرة أخرى ويميل على أذني من جديد،
وبسُخرية جافة خشنة كظهر الليفة، يقشعر لها جسدي وتدميه، سُخرية بلا خفة دم،
سُخرية السمين التخين الذي يتجشأ عقب كل مرة يشرب فيها كوباً من البيرة، أو رشفة
من قلة الماء الفخار الحمراء مشطوفة الرقبة، ثم يكمل الحديث بصوته الأملس الرنان:
أقصد البقره، يا بهيم!.
-البقره؟!.
-نعم، فاتنتك يا حمار!.
أقهقه أنا هذه المرة، قبل أن ألتقط من يده
مبسم الجوزة الغاب، وأنفث دخانها الأزرق في وجهه المغضن بالبثور والقسمات الرخوة:
أه يا جوز البقره، طول عمرك غاوي بقر!.
يقهقه من جديد بصوت العرسه،
وينتهي الحوار بيننا، ومع مقادير من الزمن، ألاحظ أن أكثر المهرولين القاصدين من
طائفة الجزارين أصحاب المحافظ والكروش الكبيرة، وفي كل صباح لا تكف أبقاره عن
الخوار، ولا يكف هو عن الصياح على أطفاله وهُم يلهون في الحارة الريفية الضيقة،
أما زوجته اللعوب النهمة، الفاتنة ذات التأود عند الخطو بإيقاع لا مثيل له، فدائمة
البحث بجسدها الفائر وبعينيها الفسيحتين الكحيلتين القلقتين المتوعدتين عن أي شئ
تائه هنا أو هناك، عن طمع لأية منفعة، كما لا يتورع العفاريت الصغار المُدربين على
الرصد عن قنص أي شئ مُتاح من أسطح الدور والحقول المُتاخمة.. لبشة قصب، كبشه قوالح،
كوز ذرة، كومة حطب، لفة جرجير، كوم سباخ من غبيط فوق ظهر حمار، ثم الفرار إلى جوف
الشقوق، وفي المساء يتربع معلم البقر كالطاووس في صدر المجلس البلدي، غائصاًُ حتى
قاع فرشتة الوثيرة من الشلت والمساند الإسفنجية المغلفة بجلد البقر، والمحشوة بوبر
الغنم، وقبالة حوض الجمر الفخار المتوهج يبدو مبسم الجوزه الغاب في فمه كفوهة
مدخنة، يقذف الدخان الأزرق، وهو يزكم الأنوف غير المُعتادة، ويبعث راحة، ويرسل
خدراً، ومع هطول السكون في الفراغ المُنعزل، ما من أجمل وأرق وأوحى وأثرى بالوعد
والدعة، مثل أنثى تهيأت للقاء، عندما تشع مكونات حسنها الترقب، وتشرع نقاط حوافها،
مرسلة عبيرها صوب من ترغب، ممهدة لحلول اللحظة التي سيصبح فيها المفرد جمعاً،
والواحد اثنين، فهى أسيرة، مسحورة، بقرة ذليلة خانعة، أنثى عقلها هو جسدها الجائع
والمحروم دوماً، ومن وراء نوافذ وأبواب الدور الطينية المُغلقة، وكما تستدل على
الأسد من رائحة بوله المُنكَر، تستدل على رائحة الشبح القادم وهو يخطو مندفعاً
لقنص دفء الوعود الزائفة في راحة الكف البضة الناعمة المُمتدة كاللسان بالود
الوظيفي وحلو الترحاب المُعتاد المغموس بطراوة الرنة الملساء كالحرير: أهلاً
وسهلاً، يا مرحبه، نورت يا معلم!. وفي تلك اللحظة توحي المرأة بابتسامة لا تسفر
تماماً، لكنها موجودة في موضع انفراجة شفتيها، ومن وقت إلى وقت يبدو جبينها طيفاً
شجياً، لكنه لا يقطع الأمل من ابتسامتها الخفية التي تبدو كوعد قائم بالرسو قبل أن
تتصل العيون لثوان مارقات، وقبل أن يرفل الضيف القادم بنشوته الجاهزة، غاطساً على
حجر ترحاب المرأة وهى بكامل حفاوتها باللاهث الجديد، الحالم بتنفيذ الوعد الذي طال
انتظاره. وفي حين يتكئ الضيف على بوتقة الكلام المعسول، العينين الساحرتين،
الأنامل المصقولة ببريق الذهب، الردفان المتناسقتان المتناغمتان الممتلئتان بغير
افراط، رغم نحول القامة، وحافة السروال الداخلي، ومع انتهاء رشفات أكواب الشاي
الأسود المُحلى بالسكر نبات، والمعطر بالنعناع، ومع انطفاء سُحِب أنفاس الجوزة
الهامدة، إنسياب جدائل الشعر الناعم الفاحم الغجري حتى نتوء الردفين، لهاث الأنفاس
الساخنة، إستقرار الصيدٍ الغافي في المصيدة. تبدأ المرأة في نسج غزلها، وهو يؤدي
في نعومة لعبة الأخذ والرد، والفحيح الغانج، والمساومة في مقدار الثمن المدفوع في
البقرة، وقبيل آذان الفجر تنساب خيوط الشرنقة، تندس أوراق البنكنوت في حجر المرأة
العنكبوت وزوجها شبه النائم، ثُم وبعد أن يتثاءب عقل القادم الجديد، وتسترخي
أهدابه، يصير شخيراً عالياً، ذبابة تختنق داخل خيوط العنكبوت!.