القطْن يُحدث عن حياته وفائدته

أنا القطن صديق الفلاح؛
ولكن. ما أشد ما يُقاسيه فى زرعى، وما يُلاقيه فى عنايتي وجنيي، فهو يحرث الأرض
وهى صلبة؛ غليظة، يابسة.. مرتين متقاطعتين، ويقَسمها خطوطاً تزرع من جوانبها،
ويجرى الماء فى قنواتها. وتقطعها إلى قنوات أصغر؛ تمدها بالماء . فإذا أتم الفلاحون
الحرث والتخطيط، أتى أولادهم وحفروا فى جنب واحد من كل خط نُقراً، بين كل واحدة
والتى تليها حوالى نصف ذراع ، ثم وضعوا فى كل حفرة أربع بذرات أو أكثر من بذورى
السوداء، وردموا الحُفر فوقها، وسقَونى سُقيا موقوتاً بكميات معلومة من الماء،
فأنبت بعد خمس أيام من زرعى . فإذا اكتحَلَتْ الأرض  بنباتى، إختلع الفلاحون ونزعوا مني النبات الرطب؛
وأبقوا فى كل حفرة خلاتين أو ثلاثا، حتى يُفسَحَ فى باطن الأرض لجذورى، فتنمو
سيقانى، وتنْشعِب أغصانى، وتورق وتَتَفَرع . فيعزقون الأرض، ويقتلعون منها ردئ العُشب،
وخبيث النبات، حتى لا تضعف نموى، ولا تنال من قوة أرضى . فمتى كبرت؛ وظهرت براعمى؛
وبرزت أغصاني، دب الرجاء فى نفوس الفلاحين، ونعموا فى الخير والبركة، فتتفتَّح تلك
الأكمام عن أزهار صُفر، ترصع شجرى، وتزين حقلى، كأنها كواكب السماء طلعت فى تلك الأرض
الخضراء، أو كئوس بلورية صفراء، شُفَّت على الماء، أو جنيهات الذهب على أرض من الزبرجد.
فإذا طال عليها الزمن، ظهرت حُمرتها تميل إلى السواد، وسرى إليها الذبول والوهن،
وجفت وتساقطت، وتركت جوز القطن باللون الأخضر، تنمو شيئا فشيئا، حتى تنمو، ويحمر
لونها؛ فتجف، وتنشق عن قطن ذى شعر أبيض ناعم، به بذر أسود؛ وما أجمل أن تطل على
مزرعتى، وقد تفتَّح لوزي، وطاب جنيه، حينذاك.. لا ترى إلا قُرة العيون؛ وأمثال
اللؤلؤ المكنون. أو كواكب تشرق فى الأغصان، ودُرراً منضودة على جوانب الأشجار،
كأنها شُعلة من النور، أو بنات البحور، أو بيضُُ منشور، أو ثلج منثور . ومن عجب
أمرى، وقسوة دهرى، أنه متى شاب شعرى، وبدا خيري، وآتيت ثمرى، جف شجرى، وتساقط ورقى،
وبادرتم إلى اقتلاعى.  فهل رأيتم أعظم
إيثاراً منى؟.. أشقى وبى سعادة الناس، وأتعرَى ومنى الكساء واللباس. وإنه ليعجبك
منظر الغلمان، وقد صُفوا فى القنيات الجافة، يجمعوننى بأيديهم، ويضعوننى فى أوعيتهم،
وقد احتواهم السرور والصفاء، وانطلقت ألسنتهم بالغناء، فإذا مالت الشمس للغروب،
خرجوا فرحين مستبشرين، ووضعونى فى سلاتهم؛ أو قفاتهم، تحملها ظهور الحمير؛ أو رءوس
البنات، ثم يكدسوننى فى المخزن، حتى يأتى التاجر فيشترينى من الفلاح، وينقلنى إلى
المحلج.. فأحلَج، ويبيعنى فى سوق القطن؛ وليس فى مصر من يجهل قدرى، وينسى أثرى، لآن
مغانمى كثيرة، وخيراتى وفيرة، فأنا على الدوام كنت عماد ثراء أهل القرى، ومعيار
شدتهم ورخائهم : فإن ارتفع ثمنى؛ وجادت غلّتى؛ إغتنوا وأرغدوا،، وإن انتابتنى
الأفات؛ أو هبط سعرى، أعسروا وأجدبوا، وويل لأهل القرى حين يكفوا عن زرعي، يومئذ
تشتد عليهم من الأزمات صنوف، ويقاسوا فى الحياة الضنك وعيش السوء؛ وقلة المال؛
وليس ما تلبسون من ثياب فاخرة، أو تنامون عليه وتجلسون من حشايا وثيرة، ووسائد
لينة، وأرائك منضودة، وزرابى مبثوثة، وكِلَل محكمة، سوى حسنة من حسناتى إليكم،
ونعمة من نعمى عليكم؛ وكل مريض يذكر ما أتخذ له منى من لفائف وكمادَات، وأربطة وضمادَات،
وقطعة من القطن تُمسح بها قروحه، وتُغطي بها جروحه، ووقاية لصدره من لذعة البرد،
حتى خففت من آلامه، وساعدت على شفائه . وإن فى بذرى الأسود، لمتاعاً لكم
ولأنعَامكم، فهو عَلَف دوابكم؛ ومنه تعتصرون زيتاً تنتفعون به فى حياتكم . أفرأيتم
النار التى توقودونها في رحلات الخلاء، تنضجون بها طعامكم؛ وتتدفَئون، أليست شجرتى
وقودها؛ وحطبى لهيبها؟. وأشرعة السفن في الزمن القديم؛ وهى تشق البحور فى سلام
وأمان، فمن أى غزل حيِكت أشرعتها؟.. فكلوا من رزق ربكم واشكروا له، بلدة طيبة ورب
غفور.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top