محاورةُ بين مستخدم وصانع

 

المستخدم : – حياتى ما أسعدها ! : عيشة
راضية، وملابس أنيقة، وألقاب شريفة، ومكتب بهيج، وكرسى وثير، وساعات تُقْضَى بين
الدفاتر والمحابر، وتوقيعات وإمضاءات، وترحاب فى الغدوات والروحات. وراتب شهرى
ضمنته الحكومة، فلا أخشى به إملاقا، ولا تنقصه أزمة، وعلاوات دورية واستثنائية،
وأمل متجدد، وطموح إلى الترقى، وكلام مسموع، واحترام من الجمهور، وعِشَّرَةً
لجمهور المتعلمين : لا ترى بينهم إلا كل ذى عقل حصيف، وخلق عطيم، يرشده علمه،
ويثقفه أدبه، ويمنعه حلمه، ومعاش : يكفل نفقاتى، إن وهن العظم، وامتد العمر ولم
أطق العمل. ويعول ذرية ضعافا من بعدى، إن إنتهى الأجل، وغابت شمس الحياة، فلك
الحمد يا ألله، على ما أوليتنا من نعمة، ووهبت لنا من كرامة.

     الصانع :× – إن كنت كما وصفت، فأنتم تتمتعون بنعيم
مقيم، وتعيشون فى سعادة من فوقها سعادة. ولكن حدثنى أخ لكم – ولا يُنَبَّئُكَ، مثل
خبير – أنه خُذْروف  الحكومة، أو قطعة
الشطرنج فى يدها : تطوح به صيفاً إلى أسوان، وشتاء إلى الأسكندرية، وربيعاً فى
العريش، وخريفاً فى الواحات، كأنه سائح جوال أو طريد هائم، تلعب به الأهواء،
ويستبد به الرؤساء، حتى تكسر أثاثه، وبلى رياشه، وشرِّد بأولاده، وبثَّنى نبأ آخر
: أحزن قلبى، وأرسل عبراتى، وهو أن مستخدماً رزق سبعة ولدان كأنهم لؤلؤ مكنون،
كانوا به فى رغد من الحياة، وغِرَّة  من
العيش، فاختُضِرَ عوده، وقضى نحبه، وتركهم زُغَب الحواصل، لاماء ولا شجر، ولم يكن
له قديم خدمة، فلم يُحسب له معاش، وصرفت لهم مكافأة لا تغنى غناء، فأضحوا يتامى
مساكين : غادروا مسكنهم المُشَيَّد، إلى كوخ حقير، ونالته رثاثة  وبذاذة، وتنكرت لهم الحياة، وتكدَّر صفوها،
وأنَّ آخر أبدى فى سياسة البلد رأياً – وذلك محظور عليه – فرُفت رفتاً، وطرد طرداً،
فمضى يتكفف الناس، ويستميح الكرماء. وأحقا ما يقال عنكم : – إن معظمكم يقع فى
الأهْيَغين  حتى يأتى على كل راتبه لا يبقى
ولا يذر،، ولا يقتنى ولا يدخر، ويودع الحياة كما إستقبلها، فإذا مات عَرَّس الفقر
بداره، وارتدى بنوه أطمار اليُتْم والعُدْم. وإنكم لابُد أن تصانعوا الرؤساء،
وتفعلوا ما يأمرون، وتقولوا ما يريدون، وإنكم عبيد الحكومة، والأمة المغلوبة،
والحرية المسلوبة، وإن الإثراء لا يواتيكم،، لأن رواتبكم لا تتسع إلا لكفاف العيش،
وضرورة الحياة.

     المستخدم : ×– قد عبَّ عُبَبك  فى أمر لم يسبق لى به علم، ولم تقع لى به خبرة،
ولقد قلَّبت خواطرى فى ماضى خدمتى،، فلم يرِدْ إلى وهمى، ما يحقق قولك، ويُمثِّل
فى نفسى صدق أخبارك،. وأوقعَُ فى ظنى، أن أولئك نفر ألفوا الكسل، واطمئنوا إلى
الإهمال، أو إجترحوا سيئات، أو فرطت منهم زلات، فنالوا جزاء ما قدمت أيديهم،
وأُخذُوا بذنوبهم، عظة للناظرين، ومثلا فى الآخرين، فأخَذوا ينقمون من المستخدمين
حياتهم، ويظهرونهم بما تنفر منه الطباع، وتنقبض له الصدور. ولو قُدِّر لهم أن
يكونوا صناعا مثلكم، يرتدون فى عملهم أطمارا بالية، وأسمالا خلَقة، تلطخت بالزيت
والعرق، وتقذرت بالفحم أو الصدأ، غير وجوههم قتام
×الدواخن، وقترها رماد الأفران، يدقُّون
بالمطرقة والسندان، أو يعملون بالإزميل والمنشار، بين صليل العُدد، ووهج النار، لا
يعرفون الراحة ولا يذوقون طعم الدعة، يبيتون منهوكى القوى،، مرتهكى  المفاصل، يئنون من التعب، ويتأففون من الكلال،
لو قدر لهم أن يكونوا كأولئك، لعرفوا أنهم يتفيئون فى ظلال الراحة، ويتقلبون بين
أعطاف النعيم، وأنهم لنعمة ربهم جاحدون وللحكومة ظالمون.

     الصانع : – يُخَيَّل إلىّ أن سيدى ينأى
بجانبه عن الصُّناع، ويشفق عليهم لما يصيبهم من جهد ومشقة وإنى على بينة من أنهم
شرفاء بمهنتهم، سعداء بحياتهم، يرتدون أسمالا بالية، ولكن يرفلون فى حلل الحرية،
وتظهر على وجوههم دلائل الجهد، ولكن تتبيَّن فيها القوة والعافية، لا يمن عليهم
رئيس، ولا يتحكم فيهم هوى، لأنهم يعملون حيث كانوا، ويرتزقون أنَّى وُجدوا، لا
غناء لإنسان عنهم، ولا تنتظم الحياة إلا بهم، تقوم مدنية العالم على أكتافهم،
ويستمد الناس الراحة والرفاهة من بين أيديهم، وإلا فمن شيد تلك القصور الشامخة،
ونسج تلك الملابس الجميلة، وصنع السيارات والقطر، والطيارات والبواخر، أى شىء
تتمتع به لم تخرجه يدى، ولم يكن عملى؟

     المستخدم : – لقد حملك الفخر على أجنحته إلى
سماء الخيال، فادعيت لنفسك صالح الأعمال، ونسيت أنا نظام الدولة وقوام أمورها،
ولولانا لاختلت الأعمال وساد الجهل والظلم، وتفشَّت الأمراض، وما قامت حكومة ولا
إنتظم عمران. أليس منا من يحكم بين الناس بالعدل، وينشر بينهم لواء الأمن، ويحارب
الأمراض المتفشية فيهم، وينظم أعمال الرى، ويقاوم الآفات الزراعية، ويُعَلِم النشء
ويثقفهم، ويضبط دخل الأمة وخرْجَها، ويرتب ميزانيتها ؟ هذه أعمالنا التى تبخسونها،
وأشغالنا التى تنوءون بها فكيف – وأنت تعمل بأجر زهيد، وتلاقى فى الحصول عليه
العناء الشديد – تبارينا بأعمالك، وتفاخرنا بأفضالك.

     الصانع : – أجر زهيد، وعناء شديد ولكنا
نعتمد فى الحياة على نفوسنا، ونعْتَزُ بعزائمنا. فهذا الصانع الذى تزدريه، غداً
تراه من أرباب المعامل، يرتزق عنده المستخدمون، ويشتغل فى ديوانه المتعلمون. ولسنا
كلاًّ على الحكومة، لو أقفلت أبوابها فى وجوهنا، لضاقت علينا الأرض بما رحبت. ولو
أمعنت فى بطون الصحف والمجلات لعلمت علم اليقين أن أعاظم المخترعين، الذين رفعوا
لواء المدنية وأطلعوا شمس الحضارة، وذلَّلوا للناس سبيل السعادة، كانوا من أولئك
الصناع الذين كشفوا عن أسرار الطبيعة وأماطوا اللثام عن خواصها، وسهلوا إنقيادها،
لخدمة الإنسان وهناءته، واستتباب أمنه وتوفير راحته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *