شجرة المعروف..!

 


كان سوق
القرية مزدحماً بالبائعين واَلمشترين، كعادته فى كل أسْوع، وكان اليوم حاراً شديدَ
الحراَرة، قد أسأَل العرق على الجباهِ، وجففَ الألسنة والشفاه…

وفى
ذلك اليومِ، كان فاكهانى واقفاً بعربته على باب السوقِ، وكانت على عربته فاكهة
تَشْهِىِ النِفوس وتلذ الأعين، وفجأة، أقبل على العربة شيخ كبير، رث الثياب، فقال
للفاكهانىِ: إمنحنى يا بنى كمثراة واحدة كصدقة، أبل بها ظمأى المحرق، وأسد بها
جوعى المهلك، فقال الفاكهانى: أجئت بفاكهتى إلى السوق، كى أتصدق بها على أمثالك؟.
إذهب عنى أيها الشيخ…

فقال
الشيخ: أنا لا أريد سوى كمثراة واحدة لا غير أيها الفاكهانى الطيب، فامنحنى واحدة
لأدعو لك بالخير والبركة.

صاح
الفاكهانى مغتاظا: إننى لا أبيع بضاعتى بالدعوات، فإن كان معك مال فاشتر ما تريد،
وإلا فاذهب عنى.

ثم
دفع الشيخ دفعة قوية، كادت تلقيه على ظهره، فتجمع الناس حول الفاكهانى يوبخونه على
قسوته، ويسألونه العطف على الضعفاء والبائسين، ولكن الرجل لم يسمع لقولهم، بل استمر
فى صياحه: لست أريد نصائح من أحد، فإن أحدكم عطف عليه، فليدفع ثمن الكمثراة التى
يشتهيها.

فهزت
الرجفة رجلا من الناس، وأدى إلى الفاكهانى ثمن كمثراة، ثم دفعها إلى الشيخ، فأخذها
الشيخ، وانحنى تحية للرجل، ثم نظر إلى الناس حوله، وهو يقول: أشكر لكم جميعا هذا
العطف، وهذا اللطف، أما أنت أيها الرجل الكريم، الذى جاد على بهذه الكمثراة، فأرجو
أن تنتظر لحظة، لعلى أن أكافئك على معروفك.

ثم
أخذ يقضم الكمثراة فى هدوء، حتى أكلها، فلم يبق منها إلا البزر، فأخذ ينظر إليه
لحظة فى يده، ثم التفت إلى الجمع الحاشد، من حوله، وهو يقول: أيكم يستطيع أن
يأتينى بدلو ماء حار، فى درجة الغليان؟.

فظهرت
الحيرة فى وجوه الناس، ولم يعرفوا ماذا يقصد، ولكن واحدا برز من بين الجماعة
قائلا: أنا أتيك بما تريد .

ثم
مضى فغاب برهة، وعاد يحمل دلوا فيها ماء يغلى…

وكان
الشيخ قد حفر فى الأرض حفرة صغيرة، ووضع بزر الكمثرى، ثم أهال عليه التراب، والناس
لا يدرون ماذا يفعل، فلما عاد الرجل بالدلو، أخذها الشيخ منه، ثم صب ما فيها من
الماء المغلى على الحفرة التى وضع فيها البزر، 
فما كان أشد دهشة الناس حين رأوا نبتة صغيرة تبرز من تحت التراب، حيث أودع
الشيخ البزر، ثم أخذت تلك النبتة تنمو شيئا بعد شئ، فما هى إلا لحظات، حتى رأوا
بين أيديهم شجرة كمثرى، كاملة النمو، مخضرة الورق، ناضجة الثمر، كأنما غرسها
بستانى فى هذا المكان منذ سنين، لا منذ لحظات.

وكان
الفاكهانى قد رأى هذا المنظر من بعيد، فدهش كما دهش الناس، وجاء لينظر من قرب،
فرأى ثمار الكمثرى، تتدلى من فروعها ناضرة، ناضجة، تشهى النفوس، وتلذ العيون…

ثم
بدأ الشيخ يقطف تلك الثمار، ويوزعها على من حوله من الناس، فما منهم أحد، إلا ناله
ثمرة من ثمار الشجرة، إلا الفاكهانى البخيل.

فلما
قطف الشيخ كل ما كان متدليا من الثمار، أخذت الشجرة فى الذبول واليبس والإنكماش،
فما هى إلا لحظات أخرى، حتى صارت الشجرة الفارعة قطعة من خشب يابس مغروزة فى الأرض،
فاقتلعها الشيخ من مغرزها، ثم اتخذها عكازا، ومضىَ فى طريقه يتوكأ عليها…

فلما
انفض الناس، عاد الفاكهانى إلى عربته، فوجد الكمثرى وقد أصابها العفن جميعاً،
ورأىَ إحدىَ يدى العربة منزوعة من مكانها، فلم يبق للعربة إلا يد واحدة…

حين
ذاك تنبه الفاكهانى إلى أن قطعة الخشب التى انتزعها الشيخ من مغرزها فى الأرض،
ومضى يتوكأ عليها، كانت تشبه يد العربة، فأسرع وراء الشيخ، حيث مضى ليدركه، ولكنه
لم يعثر له على أثر، فلما هم الفاكهانى، أن يعود إلى حيث ترك عربته، عثر بقطعة
الخشب التى كان الشيخ يتوكأ عليها، مستندة إلى جدار فى الطريق، فلما أمسكها، رآها
هى نفسها يد العربة المنزوعة، فأخذها وعاد…

ثم
رجع الفاكهانى إلى داره حزينا، كئيبا، يقلب كفيه ندما على ما قدم من الإساءة إلى
ذلك الشيخ الضعيف، بسبب بخله الشديد.

 

تمت

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *