رعب التجربة

  

 


حدثتني
نفسي بضرورة تجاوز هول المأساة ببعض الألاعيب النفسية، مثل إعمال العقل والخيال
وإدماجه في عالم آخر بعيداً كل البُعد عما أنا فيه، ولكني فشلت.

حاولت
أيضاً تجاوز رعب التجربة بلعبة استدعاء مشاهد مبهجة، فكأن علىّ فتح ألبوم برتقالي،
وأن أنتقي منطقة ظل محايدة منه، وأجلس فيها، لأتابع هجير الألم بروح محايدة، لكني
لم أستطع اعتماد ذلك، ولو لبعض الوقت.

الشمس
تقترب من لون الدم المحتقن.

دم
على الأرض، ودم في السماء.

يسقُط
العشرات منا في حالة إغماء، وأنا منهم، ثم أفيق على صيحة بالعربية الركيكة لجندى
عدو: ناموا كلكم يا غجر. فننام جميعنا على بطوننا.

أحاول
من جديد استدعاء ألاعيب الخيال، فتستغرق عتمة العينبن المغمضتين ذكرى الصور
الجميلة مع أحباء، وأهل، وجيران، وأصدقاء، تركتهم من خلفي، لكن زخم الخيال لم
يستطع تجاهل الصرخات التي أسمعها، كأصوات دق هون، وخبط أغطية حلل، ورنين كلاكسات منفردة،
ثم مجتمعة، تتعالى شيئاً فشيئاً، في تشكيل شرس، كلها تفتت قدرتي على السمع
والإحتمال. كما بدا الخيال عاجزاً عن إحياء لحظات ضاعت في غياهب الذكرى، كما لو
كنت في مركبة فضائية، ومع مرور الوقت، تتصاعد التموجات التي تُصدر إيحاءً بأن ثمة
أشياء كثيرة تتكسر، أو تتهشم، أو تتشظى، يتبعها بشكل مباشر أصوات احترت في تحديد
كنهها، لكني أتعرف على أصوات عالية للغاية، تشبه تلك الأصوات أثناء دق الكُفتة في
هون أمي، ووشيش وابور جاز جدي الهلالي، ومبيض نحاس الحارة التي أقطن بها، وطبل
أجوف صارم، وخبط أغطية حلل تشكشك على موقد نار، وصوت دق مسمار يخترق العقول
والجماجم، وأصوات بلدوزورات من شأنها أن تقوم بندمير منظم لجهازي السمعي والعصبي،
وقد بدا الوقت راكباً ورقة قذرة، يحركها هواء خامل، وتحكمها عوامل الصدفة، والسخف،
والغباء، وكل عناصر الشر التي ينتهجها ضباط وجنود العدو، لدرجة أنني ظللت أتخيل
بأنني  في إحدى آلات التعذيب، وأن بعضاً من
خوالي دودة القطن، أو شيوخ الكتاتيب، أو ضباط السجون والمعتقلات، هم عناصر نشطة في
خلية للتعذيب، وحين أفكر في الهرب، رعب الآلة الضخمة يفرض سطوته، فأحيد عن الفكرة،
وأستكين في موضعي القريب من حافة الجنون.

من أجواء روايتي “الأنياب الباردة” الصادرة عن دار نشر “ديوان العرب” عام 2024


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *