في الطريق إلى الضفة الغربية

 


في حين تهب ريح مليئة بكل الإحتمالات في ظلام موغل، سابغ. والطريق في
حالة صعود، وصدري يلهث وسط هواء له فحيح، فأحكم ربط الشال الأبيض، المصفر الآن
بصفرة الكفن، حول رأسي، غائصاً في سير جاد، وبادياً كشرارة ضئيلة من الحياة، أما الليل
فساكن إلى حد الموت، لا يكشف سراً، ولا خبراً، يكفنه ظلام، برد، ريح. و”وادي
الجماجم” عن يساري، كوعاء ضخم من الرمال، والبروزات الصخرية المُخيفة، وكلب
ينبح في مشارف الوادي، ويزداد حفيف شجيرات الرمال السوداء، ويزيغ بصري، ثم يعود من
جديد، وروائح موت تهب من كل جانب، وكثبان رملية سوداء، ووثبات أشكال غامضة، وهياكل
دبابات وعربات محترقة، في حين يسطع أنفي برائحة عطنة، وأشباح قصيرة مُظلمة تتراص
على الجانبين، وهسيس مخيف، ثم أصوات صراصير وجنادب ودوي نحل، وأنفاس في صدري
تتلاحق، أتسمع آنينها المكبوت، وهو ينادي، ولكن. لا سميع، ولا مجيب، في حين أن الطريق
يواصل صعوده دون انحدار، ومن داخل الوادي، أسمع عواء ذئاب، ونباح كلاب. أفكر (كان
يجب أن يسموا هذا الوادي بـ”وادي الجماجم “والكلاب). وهأنذا. أطمئن نفسي(صوت
الذئاب والكلاب بعيد جداً، فلا تخشى شيئاً). وها هى تتوالى عن يميني تباب عديدة هائلة،
وجبلاً يفضي إلى جبل فوقه، كأنها سلالم تقود إلى السماء، سوداء، مُتجمدة، وحين أنحرف
إلى اليسار. أرفع رأسي إلى السماء، فأجد بعض نجوم تشفق علىّ، تبدو كما لو كانت
تحرس كون نائم، تتغامز فيما بينها، وترسل ومضات قصيرة، ويختفي خلف الغيام، في
الجانب الغربي من السماء، شئ من القمر، وينسحب ضوء واني، ويهب هواء جاف منعش،
ترتفع معه مناجاة الأشجار، ويبدو الخلاء ممتداً كالغناء، والصمت شاهق على المدق الثعباني،
الصاعداً بلولبةً، فيتبادل كتفيا الهاندباج، ولا يحيد بصري عن الطريق، في حين أسمع
لهاث أنفاسي، وضجيج قلبي، ويلوح الظلام كثيفاً، وضباب رائق يغطي، ولكن. يصبح جسدي
ثقيلاً  فجأة، كأنه تحجر على شكل تمثال، فتتسمر
قدماه في الأرض، وتثبت ذراعاه بالحديد والأسمنت، والفخذان تصبحا من الرخام، وكل
فخذ شُدَّ إلى ناحية، ودُقَ في كل قدم مسمار كالمصلوب، ثم صرخة مكتومة، يعقبها (يا
إلهي الرحيم المُنقذ، ما هذا القادم نحوي؟. هل بدأت التهيؤات؟. أم هو رُهاب
الخلاء؟.). وهأنذا. أفرك عيناي، أوسعهما، في حين يقترب الغريب ببطء، ولا تبدو له
ملامح مُحددة، ليس بإنسان، ولا بحيوان، ويخرج أصواتاً منكرة، كأنها طنين مدينة من
النحل، ومن جديد (يا إلهي الرحيم  المُنقذ،
إنه يزداد طولاً كلما اقترب). وللمرة الثانية. أفرك عيناي أكثر، وأبسمل وأحوقل، وأستعيذ
بالله من الشيطان الرجيم، علَّه يختفي، أو يتبخر في الهواء، ولكن. يظل هذا القادم
مُنتصباً في طريقي، ويصدر أصواته المُنكرة بلا توقف، بل ولا يزال يتقدم ببطء نحوي،
فتصطك أسناني، والخوف كالموت، كائن عضوي من لحم ودم، يتجسد أمامي على شكل مخلوق
غريب، مشوه، رأسه إنسان وجسده قرد، رأسه عار، حليق، أملس، وصدره غابة شعر، وإليتيه
كرأسه عاريتين، ملساوتين، تشف بشرتهما عن لون الدم، وشفتا لاالعفريت حمراوتين،
منفرجتين، يظهر بينهما لسان طويل، حاد كنصل أبيض، له حافة معدنية صلبة، وفي نهايته
ثقب مظلم يكمن فيه الموت، فأصرخ صرخة مكتومة، لو بلغت جبل قاف، لشطرته إلى نصفين،
فأسدل جفني فوق الرعب الزاحف إلى حلقي خلال القناة الدمعية التي تصل العين بالأنف،
يتكور كالغصة، يشد عضلات حلقي، فأبصقه بكل قوتي، فينبعث من فمي وأنفي وأذناي خيوط
رفيعة كالنافورة، فأحاول تلاوة بعض آيات القرآن التي لا يطاوعني الإرتعاش على
قولها، ولكن (ليت ماردي هذا يرحمني، فيختفي عني في باطن الرمال والصخور.). ومع
أمنيتي تلك. أبطئ خطواتي، ينسحب الدم من عروقي، فأحس باندفاع موجه من “الأدرينالين”
في جسمي، فتلهث أنفاسي، والوخز يفرش صدري. في حين يقترب العفريت أكثر، ويزداد
طولاً، يُصبح كمأذنة، فتتعثر دقات قلبي، وتمتد يدي لفرك عيناي، والقلب ضنين بما
يدفعه من دماء إلى سائر جسدي، بدايات غثيان، لحظات ما قبل القئ، الجسم يفرغ من
الروح، صرخة لو انطلقت من عقالها، لجمدت ماء المحيط، وهأنذا. أبطئ من خطواتي أكثر،
وأنجح في نطق الشهادتين، في حين لا يزال العفريت  يجئ سالكاً ممرات وعرة إلى روحي، تشع عيناه
بوميض مُخيف (هو عفريت ولا ريب، كا الذي رآه “عمر بن الخطاب” رضى الله
عنه في بعض أسفاره إلى الشام، وأن العفريت كان يتحول له، وأنه ضربه بسيفه، وذلك
قبل ظهور الإسلام). والآن. يبدأ هذا الإنهيار البطئ الذي لا صوت له، وهذا الهدير
الخافت، والحلقات غير المرئية التي تدور داخل رأسي، وتحكم الحصار حول روحي، ولا
تجد من يجهز عليها في ضربة مُختصرة واحدة، لا ضربتين، والليل يثقل عليّ، والنهار
يجئ، أولا يجئ، واللسان ينعقد، والصوت يرتج، والحروف والمعاني تخونني، والخوف
يدهمني، كعفار يهب من جبل، فمن منكم يدلني على شئ يهون الأمر فيهون؟. وهأنذا. أفكر
في العودة بهرولة، ولكني أطرد الفكرة المجنونة عن مخيلتي، وأتذكر مقولة أبي (من يُغامر
بدخول الصحراء، لا يمكن أن يرجع أدراجه، وما دام التقهقر مُستحيلاً، فلا يجب
الإنشغال بشئ، سوى أفضل طريقة للتقدم). وفي هلعي المكبوت. أود لو أخرج من أسر
جلدي، أزرع لساناً من لهب يصهر سواد السماء والنجوم، ويحجب الكواكب البعيدة، ولكن
(أنا رجُل، وماكل تلك اللحظات من المُعاناة، إلا مُقدمات لما أنا مُقبل عليه،
فلابد إذن من شد عودي، إنصهار قلبي حجر صوان، وإلا، فالضياع وشيّك.). ويبقى (هل
تهتز حبة رمل من رمال “سيناء” لضياعي؟.). ولا أنتظر جواب، بل أجوب ببصري
الأرجاء، وأنا أدقق، أتمعن، أتذكر مقولة جدتي ذات يوم، بأن من يعترضه عفريت في
الفيافي والقفار، يزجره (يا رجل عنز / إنهقي نهيقاً / لن تنزلي السبيل / ولا
الطريقا). فيختفي العفريت في بطون الأودية، ورءوس الجبال.وبالفعل. أزعق بتميمة
جدتي، وفي ذيلها. أقرأ آية الكرسي، والمعوذتين، ولكن(يا إلهي الرحيم المُنقذ، هل
اختفي العفريت حقاً؟. أم هى المصادفة؟.). وعلى أية حال.  ألتقط أنفاسي، وأشكر الله على أن العفريت، لم
يظهر على صورة فتاة جميلة، فأتبعها، أو يُصفر في أذني، فأهيم على وجهي بلا عودة.  والآن. جلال الصمت يسود، فأسرع من خطواتي،
يدغدغني همسي المسموع (ربما ما حدث من صُنع مخاوفي.). ولكن. ينتابني هاجس (العفاريت
والمردة والغيلان مقدورا عليها، أما الوحوش من الذئاب والضباع، فلا، لذا. لا بد من
سكين الهاندباج بيدي.). ولكن. هل أنا ساذج إلى هذا الحد؟. فماذا عساها أن تفعل
سكين مطبخ مع وحش قرر أن يفترسني؟. وبالرغم من ذلك. أستل سكيني، قابضاً عليها بقوة.


من أجواء روايتي القادمة “ذئاب الليل”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top