منذ خمسمئة
سنة، لم يكن في الدنيا كتاب مطبوع، إذ كانت الكتب كلها تكتب باليد، فلو كنتم يا
أصدقائي الأعزاء تعيشون في ذلك الزمان، لما كان في إمكان أحد منكم أن يملك كتاباً
واحداً، من الكتب الكثيرة التي تملكونها اليوم، فإن كتابة نسخة واحدة من الكتاب
تكلف ثمتاً كثيراً جداً، ووقتاً كبيراً جداً، لهذا كانت الكتب نادرة، غالية الثمن،
لا يطلع عليها إلا نفر قليل من الذين يعرفون القراءة والكتابة، ولم يكن يعرفهما
أحد بأوروبا في ذلك الوقت، إلا بعض الأسر الغنية، ورجال الدين، وكان ملايين من الناس
يعيشون ثم يموتون دون أن تقع عين أحدهم على كتاب!.
ثم نشأ في
إحدى المدن الألمانية رجل فقير، إسمه (يوحنا جوتنبرج)، غصنع شيئاً عظيماً، لم
يصنعه أحد من قبله، فصار سبباً لإنتشار العلم في كل مكان، ولذيوع الكتب حتى صارت
في يد كل إنسان!
كان يوحنا
هذا صائغاً، يكسب رزقه من صناعة الحلي، كالأقراط، والخواتم، والأساور، والعقود،
وكان من
عادة الناس في ذلك الزمان القديم، أن ينقشوا على فصوص الخواتم أسماءهم، أو شارات
تدل عليهم، ليستعملوها كالأختام، يختمون بها على الوثائق والعقود، وكان الصائغ
يوحنا جوتنبرج بارعاً في نقش هذه الفصوص،
وذات يوم
كان جالساً يحفر شارة مصورة على فص خاتم، فخطرت له فكرة:
(لماذا لا يحاول أن يحفر على لوح من الخشب صورة من الصور
المقدسة، ثم يضع عليها حبراً، ثم يختمها على الورق، قيرسم بذلك نسخاً كثيرة من
الصورة، دون أن يكرر الرسم لكل صورة؟)،
وأعجبته
هذه الفكرة، فلم يلبث أن نفذها، ورأته زوجته وهو يطبع صوراً، وأنواعاً من ورق
اللعب، فسخرت منه، وأسفت لتضيعه الوقت في مثل هذه الألاعيب،
ولكن
جوتنبرج لم يهتم بسخرية زوجته، ومضى في تجاربه، حتى وفق إلى طبع صورة من الصور
الدينية المحبوبة، ثم عرضها على رجال الدين، فأعجبوا بها إعجاباً شديداً، وسرَّهم
أن يحصل على نسخ كثيرة من الصورة، من غير أن يتعب في رسمها غير مرة واحدة، وكان
رسم الصورة الواحدة يحتاج إلى سنة أو أكثر من سنة، ثم شجعوه على المضي في إختراعه،
بشراء جميع النسخ التي طبعها،
ولما رأى جوتنبرج نجاح هذه الخطوة، أخذ يفكر
في خطوة أخرى، وكان ولوعاً بالقراءة، ولكنه لا يملك ثمن الكتاب، فحمله ذلك على أن
يبذل تجربة جديدة، لطبع كتاب من الكتب
بتلك الطريقة نفسها، ولكنه لما بدأ التجربة، ظهر له أن الحروف التي ينقشها بارزة
على الخشب، تظهر بعد الطبع مقلوبة على الورق، فبدا له أن يعالج هذا بنقش الحروف
على الخشب مقلوبة، لتظهر بعد ذلك على الورق معدولة، فلما نجح في تنفيذ هذه الفكرة،
بدأ يطبع كتاباً دينياً، بنقش صفحاته مقلوبة الحروف على الخشب، صفحة صفحة، ولكنه
لاحظ بعد أن قطع في العمل مرحلة، أنه يبذل جهداً كبيراً بلا فائدة، حين ينقش صفحة
صفحة، وأراد أن يوفر جهده، بنقش الحروف الهجائية مقطعة، ثم يجمع بعذها إلى جانب
بعض، ، ليكون منها ما يشاء من الكلمات، وبذلك تكون عنده حروف بارزة تصلح لطبع أي
كلام، في أي كتاب، من غير أن يكرر الحفر على الخشب في كل مرة،
وترقى بعد
ذلك في إختراعه، فصنع الحروف من الرصاص بدل الخشب، وبذلك أنشأ جهازاً كاملاً
للمطبعة،
وهكذا نجح
يوحنا جوتنبرج منذ ما يقرب من ستمائة عام في إختراع المطبعة، التي تخرج من الكتاب
نسخاً كثيرة، من غير أن تتكلف إلا نفقات نسخة واحدة، فكان ذلك أول سبب لذيوع العلم،
وانتشار المعرفة، وتقدم الحضارة،
ائغ فقير،
ولكنه بهذا الإختراع هو الذي نشر العلم في كل مكان، وأتاح لكل إنسان أن يحصل على
الكتاب بأقل ثمن،
لقد خطت
الطباعة بعد ذلك خطوات كثيرة في سبيل التقدم، حتى صارت آلات الطباعة الحديثة تطبع
مشئات الألاف من نسخ الكتاب الواحد، في الساعة الواحدة، ولكن الفضل الأول في كل
ذلك، يرجع إلى الصائغ الفقير (يوحنا جوتنبرج) الذي إهتدى إلى إختراع أو جهاز
للطباعة!
تمت