هو أعظم وأجمل وأرق رجل في العالم؛ لا ترى رجلاً غيره؛ الرجال بالنسبة لها ليسوا
أفراداً؛ لم تلحظ أيهم ذات مرة كواحد وحده؛ ظلو كتلة؛ أهم شئ فيها أنه هو منها؛
وفي غيبته عنها؛ منذ ما يربو على العام في عمله ببلاد النفط.
بأحدي
ليالي الصيف القروي الحزين، عاد عبده الغائب
بمدن الشمال من سنين، تدور حوله
الأسئلة، ما سبب عودة ذلك المستهتر، الذي فارقنا؛ وارتاحت منه جنبات القرية.
عبده أتقن
دور العائد الذي تعب من المدن، وليالي
الصخب؛ بنات الليل؛ النوم على المقاهي وفى صالات الرقص، عاد ليرتاح؛
يسكن بيت العائلة القديم؛ الملاصق لمنزل صبحي.
تتوالي
الأيام؛ عبده صديق صبحي العزيز، وبدايات الطفولة، جمعت بينهما الصداقة؛ وأبناء
العمومة، تذكرا أيام الطفولة؛ السباحة؛ الصيد؛
البيات بجوار جرون القمح، مغامرات
الطفولة الكثيرة التي كتبت بحبر على الذاكرة؛ لا يمكن أن تمحوه
السنون.
حول
المائدة جلس عبده.
صبحي، بعد تحضير العشاء؛ ينادي علي زوجته
وابنته؛ يقسم ان يجلسا معهما: عبده ليس بغريب.
بعد العشاء؛
على المسطبة؛ عبده يحكي لـ صبحي عن مغامراته؛ وكم أوقع بفخه الشائك.
يستأذن عبده
بالرحيل، ليعود لحجرته.
بدأ الملل
يتسلل لـ عبده من القرية وشوارعها، أفكارها القديمة؛ ولكن الي أين سيسافر، وهو فشل
بكل مكان؛ القرية ملاذه الأخير.
لم يستطع
العمل بالزراعة؛ تورمت يداه، والصيف الخانق يحاصر جسده المنطلق، فتراود المفتون
بنفسه؛ نفسه الأمارة بالخسة والنذالة؛ خطة النيل من ابنة صبحي؛ في غفلة عن رعاية أبيها؛
اللاهي بسهراته الرصيفية بجوار معرض موبيلياته الفقير.
يظنها قروية ساذجة؛ يمكن
أن تملأ غياب زوجها بجماع سري؛ علاقة شائنة في الخفاء؛ لإطفاء شهوة عابرة؛ معتقداًً
ان انتصاره عليها؛ لا يتوقف على إرادتها؛ بل على الظروف؛ وعلى وسامته؛ وعلى
سذاجتها؛ مثلها في ذلك مثل المشهورات جداً من النساء اللائي يقعن بمجرد وقوع
النظر؛ بل أحياناً بالسمع.
أدمن صحبة أبيها وجلساته الليلية معه؛ يضمهما
معاً المسطبة المجاورة لمعرض موبيلياته الفقير؛ وباب داره الطينية؛ وفي كل مرة؛
تدور الجوزة؛ يتصاعد الدخان الأزرق المخلوط برائحة الصنف؛ وسط تتالي صب البيرة في
الأكواب الزجاجية المغبشة؛ وهو يتحين وبطرف خفي نيل أي فرصة ولو عابرة للتقرب
منها؛ تدغدغها خلسة؛ لا تخلو من خسة؛ نظراته العابثة؛ التحتية؛ تحلق وهو الخبير
على جسد سهير الربراب؛ ووجهها الطفولي الذي لم تشوهه الندوب كوجه نساء مدنه
الساقطات.
في
إحدى الليالي تدنو منه ببياضها الشاهي؛ ووجهها الملظلظ؛ وطولها الفارع؛ وجسدها
الفائر؛ البض؛ تبتسم له بدلال طافح بالإغراء؛ يرقص قلبه طرباً؛ يستأذن من أبيها؛
بحجة فك ماء بوله؛ وفي بهو الدار الواسع يتقدم من صيده الثمين؛ وبعد أن عافى عليها:
كيفك يا ست الكل؟.
بغنج:
بخير يا سي عبده.
بهمس
راجف بالغواية: لا داعي لسي عبده تلك.
تخبط
على صدرها البادي كحمامتين يتأهبا للطيران: يا عيب الشوم؛ معقوله يا سي عبده؟.
يدنو
منها: ولم لا يا ست الستات؛ وأنا واقع لشوشتي؛ غرقان في بحر غرامي؟.
نعنش روحها الغزل الصريح؛
وفي ثانية؛ تكسو وجنتيها حمرة شفيفة؛ ويسرع نبضها؛ وتتراقص غمازتين عميقتين على
جانبي الوجه؛ وطابع الحسن؛ وبنظرة منكسرة؛ ورعشة صوت؛ وهى تحبك القمطة: متي وأين؟
قل بسرعه؛ قبل أن تأت أمي؟.
وكأن أحدهم ساهاه؛ وقذفه
فجأة في الترعة؛ ولكن؛ الجرأة في عينيه الخضرواتين بدأت تشع وقاحة؛ قبل أن يبتسم ابتسامة
عريضة؛ داعية؛ ناعمة؛ تشق نصف وجهه الأسمر؛ النحاسي؛ وتكشف عن صفين من الأسنان
المصفرة؛ المشرشرة؛ وكأنه وثق من امتلاكها للأبد: في داري.
تبتلع ريقها؛ وهى تشوح
بذراعها البض؛ الناهض: لا يا خويا؛ دارك وسط الكفر؛ قابلني في الغد؛ قبل أذان
الظهر قبلي الناحيه؛ عند جرن القمح؛ في دارنا القديمه؛ عارفها؟.
بحماس؛ ووجه متهلل: بالطبع.
وفي نوبة جنون حاد؛ يضمها
عبده؛ حتى كاد أن يحطم ضلوعها فرحاً؛ أكبر وأعظم فرحة مرت بحياته.
لا يكذّب أبيها خبراً؛
يعرج على صديق عمره؛ جزار القرية الشهير؛ وفي ظهر اليوم التالي؛ يضع عبده أصابعه؛ ينقر؛ دقات قلبه تتساوى مع ضرباته
على الباب الخشبي العتيق؛ برسوماته النباتيه الضامرة؛ المواجه للفضاء الفسيح؛ اللاهب؛
الخالي من المارة؛ وفي إثرها؛ تهل غندورة وعده اللذيذ؛ المسمَمْ؛ تبتسم له بإغراء
طافح بالغواية من شفتيها المكتنزتين؛ تسحبه من يده إلى الداخل؛ تاركة عامدة رتاج
الباب الخشبي دون غلق؛ وفي ثانية؛ تغيب بصيدها
في الداخل شبه المعتم.
في البهو الخاوي؛ والصيف
الخانق يحاصر بهواء أغسطس الحزين؛ لا يدع لها فرصة الدلال وقياس قوة بقوة؛ ينقض
عليها؛ يقسو؛ أنيابه مغروزة بفمها؛ تدوخ والنشوة الخائفة؛ يترجرج الجسد؛ قطة سوداء
تراقب؛ هى تحاول قنص أي شئ؛ خافت؛ انكمشت؛ وضعت رأسها بين أرجلها؛ والذئب يلتصق بفريسته
أكثر؛ يهصر خصرها؛ يلثم فاها؛ يغور في صدرها؛ ويصنع حفرة بالغة العمق؛ لا قاع لها؛
مرعوبة صارت؛ تخدر الزمن وتوقف؛ ولم تعد تحتمل؛ تفكر بزوجها وأبيها بين الرجال؛
وطأطأة رأسيهما: لا؛ لا؛ لا يمكن؛ مستحيل؛ الموت أهون؛ فلابد لكل مرة من أول مرة؛
وأول مرة ليست لي أبداً. أين أنت يا أبي؟.
بإجرام وإصرار سادر يحاول
طيها تحته؛ كما تطوى الرايات؛ يحاول أن يذيبها؛ أن يخترق مسامها؛ أن يهضمها؛ أن
يميع إرادتها؛ أن يجعلها تتراخى للأبد
ترى وجهه حليقاً ناعماً؛ أحمر
وسيماً؛ وعيناه خصروان؛ لهما رموش طويلة؛ ورائحة حلوة؛ وشارب أسود منمق؛ وأسنان
بيضاء مرصوصة بدقة؛ وفمه حلو يتمنى أي فم أنثى أن يقبله؛ وابتسامه كبيرة؛ ابتسامة
فوز وفرح تحتل الوجه كله؛ ولكنها؛ ويا لإرادتها الفولاذية؛ تنتفض؛ وتبدأ تضيق
للمساته العابثة؛ النهمة؛ تقشعر انكماشاً ورفضاً لمحاولاته البائسة؛ بالموضوع كله
تستخفه؛ وتنفر منه؛ وكالمهرة الحرون؛ تنفلت عنه انفلاته غير مدربة؛ كادت معها أن
تغيب؛ ويغوص قلبها؛ لولا عنادها البدائي؛ ولولا تبرعه فجأة بنزع ملابسة قطعة قطعة؛
كيوم ولدته أمه؛ لتكملة طقسه المجنون؛ تعتصره العيون من خصاص نافذة المندرة
البحرية؛ المطلة على حقول القصب.
لا يستكمل دورة ضمها إلى صدره العريض؛ العاري؛ المفروش
بغابة الشعر الفاحم؛ بعد أن يعاجله الجزار
بلكمة صاعقة؛ ورفع نصل سكينه الحاد في وجهه المأزوم؛ يخر على إثرهما ساجداً؛
مولولا بزيطة؛ محاولاً أن يتكلم بزومة من حيوان جريح؛ ولكن؛ بـزومة من أبيها؛ وبأمر
لا يرد: إضربيه يا سهير مائة شبشب على بوزه.
على إيقاع طرقعة شبشبها
الرخيص؛ ينتفض بنحيبة المكتوم؛ بنهنهته الرجالية؛ وهى لا تصدق أخيلتها؛ هل هو عبده
الذي يشهق ويبكي؟. أيبكي؟. أرخرخت إرادته إلى هذا الحد؟. حتى لم يعد قادراً على
المقاومة؟. إخيه ع الرجاله.
يعتريها الخور؛ وبشفرة
ماكينة الحلاقة؛ يجز أبيها شارب صيده الفحل؛ المكوم في الركن القصي؛ يستدرعطفه؛
ليتركه بالدار حتى يسدل الليل عباءته السوداء؛ ومحو فكرة الجزار بعرضه عارياً فرجة
للخلائق؛ كما يفعل مع بهائمه المعدة سلفاً للذبح؛ وهو ينادي في زفة مهولة: من ده بكره
بقرشين.
أنطقه الخوف في نفسه بما
لا يصدر عن رجل؛ وقبيل الفجر؛ يغطي بشاله المرقط نصف وجهه؛ يلملم سفالته؛ أشيائه
الكريهة؛ يحزم حقيبته؛ يجر أذيال خيبته؛ لوعته؛ وكسته؛ ومن حيث أتى يعود.