الغيوم لليوم السادس على التوالي كدروع الجنود
المحطمة؛ تفرش صفحة الفضاء؛ ولا تترك سوى ثغرات ضيقة؛ ذؤابات من ضوء الشمس؛ تلون
بسيطة الأفق؛ بخليط من ألوان داكنة؛ فتبدو المرئيات؛ كلوحة جدارية من فسيفساء الفن
التشكيلي؛ كما يبدو الجنود الخمس على سطح التبة؛ كبقايا أعمدة خربة؛ يتمايلون؛
ويرنون بقلق إلى فضاء السهل الممتد؛ الملبد بتموجات الرمال؛ دمدمات الريح؛ تلفح
نطف الخضرة؛ بروزات الصخور؛ الهضاب؛ الجبال؛ التلول؛ التباب؛ برعدة كرعدة موج
المحيط؛ تمحو أي أثر أو علامة لخيمة بدوية؛ هنا؛ أو هناك.
يخبو الأمل في قنص أرنب بري؛ يحتمي بثقب؛ أو بشق؛ او
الإنقضاض على ثعبان خف عقله في هذا الجو العاصف؛ المطير؛ ولم تعد تجدي النداءات المبحوحة
من جندي الإشارة في اللاسلكي؛ على كتيبة المراقبة البعيدة عن بقعتهم بمئات الكيلو
مترات؛ وهو يردد كالملسوع من لدغة عقرب: ألو كتيبة؛ ألو كتيبة؛ هل تسمعني؟.
مع الصفير الحاد للتردد المشوش؛ ينطلق جندي الإشارة
كالرصاصة تفر من عقال ماسورة بندقيتها؛ وبحنق ممرور باليأس أمام فراع الفضاء؛
محتمياً بالخندق الثعباني؛ يلتقط عامود إيريال الهوائي؛ معاوداً تثبيته في جرابة؛
ومن جديد؛ يبدأ توليف نداءه المتتالي؛ حتى يأتيه الصوت النحيل: أسمعك يا أربعتاشر.
حول.
بحماس: عربة التعيينات لم تصل بعد؛ وأخشى أن تكون قد
ضلت الطريق؛ أو جرفتها عاصفة؛ أو سيول؛ حول.
-لا داعي للقلق؛ العربة في الطريق إليكم؛ لكن؛ هل من
جديد؛ حول؟.
-للمرة الالف؛ الوضع خطير؛ ولو استمر ليوم أخر؛
سنموت من الجوع؛ علم؛ حول؟.
-علم؛ لكن؛ ما أخبار تعيين الطوارئ؟. حول.
-نفذ منذ يومين؛ ولا توجد بدائل؛ أرجو إبلاغ عمليات
الكتيبة؛ حول.
يرين صمت مطبق؛ مريب؛ تم: العمليات تبلغكم؛ تصرفوا في الأمر لحين وصول عربة الإمدادات؛
إنتهى.
تمضي الدقائق ثقيلة كخطى الأقدار؛ وهم يلهجون
بالدعاء؛ يدورون في العراء؛ يضغطون علي أنوفهم بالكمامات السوداء؛ ولا يسّْلم الجندي
حكمدار اننقطة؛ وإمامها؛ المنفوش كالطاووس؛ من لسان الجندي الآخر الفرقع لوزي
الشعنون؛ غاوي القفش والتنكيت؛ حتى في أحلك الظروف والملمات:أرجوك دعنا نذبحك؛
ونعمل بك مرقة باللحم والكوارع.
يقولها؛ ثم يفر محتمياً بغرفة السلاح من وجه هرولته
المستعرة؛ إنطلاقته كالثور الهائج؛ لوحت له بغلالة حمراء؛ مطلقاً قنبلته في ذيل
الفأر المرتعد؛ إبن إمبارح؛ كما يوبخه دوماً: ولم لا يا إبليس؟ فقد تفعلوها؛ وأجد
نفسي تحت أسنان بطونكم؛ أخرج يا جبان؛ ذبحك أنت أسهل؛ والحلة والسكين على مقاسك.
يهدئ من لهاثه؛ تهويمته؛ دائراً حول النقطة؛ كالذئب؛
وفي ذيله عريف المراقبة؛ عريض المنكبين؛ قاصداً البرميل الصاجي؛ في الطرف القصي
للتبه؛ والذي يضم بقايا طعامهم؛ أعقاب سجائرهم؛ رفات نفاياهم.
أمام مشهد البرميل المتدحرج بالجرف؛ يظل التوجه
بالدعاء؛ هو التصرف العفوي الوحيد لهما؛ قبل انصرافهما بخطوات مهزومة إلى المربع
الأول.
يظل الشغل الشاغل لجندي المنظار بقامته المديدة؛
ملامحه الصخرية؛ عينيه الصقرية؛ هو اعتلاء المنصة الطفلية؛ والنظر في المنظار؛
يبحث بنهم عن أي هدف شارد هنا أو هناك وسط الغبار والريح والسيول؛ يراوده هاجس
النهاية؛ إشارة في خبر عن شهداء الصمود والتصدي.
ينتفض المنفوش إلى مربع عمليات المراقبة؛ مخاطباً
زملائه بحكمة تشبه حكمة العارفين: لم يعد أمامنا يا إخواني سوى الصبر؛ والتوجه بالدعاء
والصلاة؛ فاصبروا وصابروا؛ إلى أن يشاء الله أمراً كان مفعولاً., فإما النجاة؛
وإما الشهادة.
تصفيق من الشعنون؛ ومن جديد: لقد قلت لك؛ وعندها؛
ستفوز برضا الله والوطن ونقيم لك نصب؛ نقدم له أكاليل الغار كل عام؛ ونقرأ أمامه
الفاتحة؛ والمعوذتين.
يقولها هذه المرة؛ ثم يفر فراره الأخير؛ غير مأسوف
عليه؛ مغلقاً عليه باب المبيت؛ وملقياً بجسده النحيل على فرشته؛ وهو يردد بصوت
تغلبه الدموع: منك لله يا فقية عصرك؛ أضحكتني؛ بل أفطستني من الضحك.
مع فقدان أي أمل في النجاة؛ يصيح حكمدار النقطة؛
صيحة القائد المجلل بالمهابة؛ متجهاً الي راعي المنظار تحت مظلته: كف عن البحث؛
واهبط معي.
بذعر: إلى أين؟.
بحسم: إلى الممر.
-إنه الجنون بعينه.
-الجنون أن نبقى هنا حتى نموت جميعاً.
بتهكم: والصبر.
-الصبر نفذ.
-ولكن.
-بدون لكن.
-ولكن الممر بعيداًً؛ وقد لا نصل اليه؛ ثم من أدراك
أن هناك أحياء.
بتؤدة: إقترح إذن أي حل غير البقاء على تلك التبة.
-أقترح أن نذهب محتمين بسلسلة الجبال والتلول إلى
الطرف الشمالي لخط الحدود؛ لعل وعسى نعثر على صيد ضال؛ أو دورية.
-وزملاؤنا؟.
-لن نعود إلا بالنجدة.
ناهضا بهمود: إذن؛ هيا؛ واحضر معك زمزمية المياه
والبندقية وجراب القنابل وكشاف الإضاءة والأقنعة.
ينزلق الشبحان؛ مشيعان بالسحن الذابلة؛ العيون
الدامعة؛ النداءات المحمومة؛ المتلاشية في غرفة اللاسلكي على العمق السحيق.
بين القمم العالية؛ يروعا من أكوام كعوب الطلقات
الفارغة؛ الدروع والجنازير الصدئة؛ أشلاء الدانات؛ رؤوس طلقات الأربيجيه الفارغة؛
الخوذ النحاسية المحترقة؛ البيادات والأفرولات الممزقة؛ أطلال معسكرات الجنود
المملوءة بأشباح الموتى من الحروب الغابرة؛ وبين صدى النداء الواهن من جندي
الإشارة في أنفاسة الأخيرة على الكتيبة الصامتة؛ يعتلي زاحفاً عريض المنكبين في
غبشة الظلام منصة المنظار؛ دائراً ببؤرتية الغاشيتين على فراغ الجهات الأربع؛
مغموراً بالنحيب المكتوم لأنفاس الريح اللاهثة على إيقاع كلكلة الموتور الزاعق؛
تموجات الضوء الشارد؛ للعربة المجنزرة؛ القادمة علي مهل من ثقب الممر؛ في اتجاة
التبة المبدورة بالظلام؛ بالغربان الناعقة؛ بالبنادق الآلي اللامعة.
17- إسمي راشيل
في |
في ولََه؛ تقف على أعتاب ضيعته؛ ممشوقة القد؛ شقراء؛ تتثنى كالثعبان؛ تتدلى
من جبهتها نجمة سداسية بلون الدم.
في بهو الضيعة المسكونة بحملة المباخر والعطور؛ قاطني القصور والحانات العامرة
بموائد القمار؛ المتحولقة بجالبات الحظ من نساء الشرق الغواني؛ المعجونات بلون
الشمس وحرارة رمال الصحاري؛ الممتدة بعرض الأفق الحالم؛ يقف على بسطة السلم
المتآكل الدرج؛ قبالة باب دهليز الضيعه المنخور بالسوس؛ تغوص نظراته اللاهية؛
البلهاء؛ في جسدها العاري؛ هامسه له بخبث الثعالب ولدغ الحيات: تزوجني؛ وإلا.
مع تكرار تملصه؛ يتكرر مشهدها؛ وهى تحمله في صندوقها المسحور إلى عالمها
السفلي؛ وتحت قرع الطبول والرقص؛ تغرية بكنوز مليكها سليمان وزمرته الميامين.
لا يفلح معها: أدائه لصلواته الخمس؛ قراءاته السبع؛ تعاويذه وأوراده العشر؛
تراتيل الملائكة الكرام حملة العرش.
يلجأ إلى العرافين؛ الرقايين؛ طاردي الجن والعفاريت من أجساد الملبوسين
والممسوسين؛ وفي الوعد؛ يركب بساطه السندسي المرقط؛ وفي خواء الغرفة الباردة؛
يتمطى على الأريكة المفروشة بنصال الخناجر؛ وأسنة الرماح؛ وهو يتلقى الصفعات على
قفاه للإجابة على السؤال الملح: إسمك؛ وطلباتك؟.
بصوت داعر: اسمي راشيل؛ ولي طلب وحيد.
-ما هو؟.
-الزواج.
-الزواج؟.
-نعم.
-مِن مَن؟.
-منه.
يزيد كبير العرافين صفعاته؛ وفي ركن الغرفة المكتظة بالمصفقين؛ بالمهللين؛
بحاملي المباخر وقوارير العطور: أخرجي من جسده يا فاجرة.
بتحريض ومجون: عشم إبليس في الجنة؛ إلعب غيرها.
يبتسم؛ يزيد صفعاته؛ تخور قواه؛ ينصرف مع حلول ميقات الصلاة؛ وانطلاق صوت
المؤذن من صحن المسجد العتيق.