الصيف : – تبرز شمسى مبكِّرة من خدرها، فتنشر خضابا من أشعتها، يُحَنِّىءُ
سعف النخيل، وذوائب الأشجار، وسطوح المنازل، وتملأ الكون بهجة ونورا. وتهب الطيور
من عشاشها : مابين عصافير تشقشق، وبلابل تصدح، وحمام يهدل، فتطير من شجرة إلى شجرة،
وتهبط من جرين إلى مزرعة، حيث تجمع قوتها، وتعود لأفراخها. وينهض الناس – ويتنفس
الصباح، وافتَّر ثغره الوضاح، وتلألأ
جبينه اللمّاح – فيخرجون فى ثياب رقيقة، وهواء فاتر، لاقر ينفحهم، ولا حر يلفحهم،
فيؤدون أعمالهم فى بسطة من الوقت، وسعة من النهار، وجو طلق، وسماء صافية زرقاء،
يبعث مرءاها سرور النفس، وانتعاش البدن. فإذا إحتدم الحر هجَّروا إلى منازلهم واستكنُّوا فى دورهم، فأراحوا
جسومهم، واستعادوا قوتهم ثم يستأنفون العمل فى الرواح أو يقصدون إلى المنازه والرياض، يستنشون عليل هوائها،
ويتمتعون بجمالها. فإذا جاء الليل تألق فى السماء نجومها، وسطع بدرها : وبسط على
الأرض رواقه الفضى، تتبين جماله، ويملأ نفسك جلاله، حينما تمتد أسلاكا بيضاء، تترص
فى الماء، أو تتخلله ظلال الأشجار، وخيال الجدران، ذاك نهارى وليلى، أجمل من
الجمال، وأصفى من الصفاء، فكيف تبارينى أيها الشتاء.
الشتاء : ×– الله الله ! يوم تبزغ شمسك، تتضرَّم هواجرها، وتلتهب حمارّتها فيصبح الناس، والضيق ملء صدورهم، والملال يمتزج
بنفوسهم، والعرَق يقطر من جباههم، والخمول تراه فى قيامهم وقعودهم، والذباب يتهافت
على طعامهم وشرابهم. فإذا جنّ الليل، فويل لهم من الهمج يُقِضُّ مضاجعهم، ويكوى وجوههم وجنوبهم، وأيديهم
وأرجلهم. وأبدانهم لا تطيق الفراش، كأنه مُد على أُوار، أو أشعلت تحته نار. أنسيت
( يا صيف)أنك موسم المرض، ومغنم الموت، تتفشى فيك الحميات، وتكثر الوفيات ؟ أو أنك
فصل البطالة : يهجر فيك الطلاب معاهدهم، ويترك المستخدمون دواوينهم، ويهرَع الناس
إلى ضفاف الأنهار وشطوط البحار، خشية أوْبائك، وفراراً من هجيرك. وقد زينت
للأغنياء ترك وطنهم، والمهاجرة إلى أوربة، يبددون فيها أموالا جمعوها من عرق
الجبين، وكدَّ الفلاح المسكين، ولولاك (يا صيف )، لتلبثوا فى ديارهم، وما نزحوا عن بلادهم. وكم شبّت فيك
من نيران، أكلت الدور واجتاحت النفوس.
الصيف : – لقد أهجرت فى منطقك، وجادلت بالباطل، وأطنبت فى ذكر
المهازل أعنِّى فى أى قطر تتحدث ؟ أفى مصر وسمائى بها مرءاة صافية، وأرضى روضة
زاهية، فيها ما تشتهى الأنفس وتلذ الأعين : من فواكه يانعة، وأشجار مورقة، ومناظر
تملأ العين قُرَّة، والقلب مسرّة، من أزياء رشيقة مُنسَّقة، وحفلات على النيل
ساهرة مونقة. وفىَّ ينمو القطن ويجنى، ويزرع الأرز ويحصد، ويُرْفع القمح ويدرس. أغنى الفقراء عن الغطاء، ولا أشق
عليهم، بشراء الصوف ولبس القَباء، كل بقعة لهم مخدع، فينامون على سطوح المنازل أو
فى البيدر، أو على جسر النهر أو تحت الشجر. وما كان لك ( يا شتاء ) أن تلحق بى تلك
المهانة والصَّغَار، وأنت مسربل بالعار، مقنَّع بالشنار أو ما نظرت جوك عابس الوجه
كاشراً، مقطَّب الجبين مكفهرًّا غامت سماؤه، ×وحُجِب ضياؤه، وغاض بهاؤه : منظر يملأ
النفوس هماً والصدر حزناً وغماً. ويا هلع القلوب وارتياع الأطفال ×حينما يتقد البرق، ويزمجر الرعد، كأنه عيون
ذئاب عاوية أو زئير أسود ضارية. ويا حيرة الناس فى الطريق حينما تنفتح عليهم أبواب
السماء، وتنصبّ فوق رءوسهم ميازيب الماء، ويأخذهم السيل أينما يتوجهون، فلا ××معقل يلوذون به، ولا معتصم يفزعون إليه، سوى
الطُّنف ينكمشون تحتها، أو المقاهى يندسون فيها،. وحدِّث ما شئت عن الوحل والوشل،
تذَى به الشوارع، وتتقذر الأحذية والملابس. وكأين من إنسان زلَّ فقرطبته زلته،
وحصان كبا فقطَّرته كبوته. وكم عصفت رياح، أغبَرت الشوارع فأظلم الجو وامتلأ قتاماً. ألا تخجل (
يا شتاء ) من يومك القصير الذى تطلع شمسه فتغيب، ويصبح الناس فيه فيمسون، لا تمتع
الناس براحة، ولا يتسع صدرك لعمل. وأى جمال فيك ( يا شتاء ) أفى الأشجار وقد نفضت أوراقها،
وتعرَّت عن كسائها، والطيور وقد إنزوت فى أوكارها، وانطوت فى عشاشها، أم فى
الأزياء الكثيفة القاتمة، والأفواه الداخنة، والعيون الدامعة، والأيدى المرتعشة :
من بردك القارس، وقُرك النافح. أنت زكام الأنف، وذات الرئة، وصداع الرأس، وآفة المصدورين
الشتاء : – إنك إن تصغر قدرى، وتسقط جاهى،
فإن الناس يعترفون أن لى رتبة لا ترام، وفضلا لا يطاوَل، فإنهم لا يلبسون النشاط،
ولا يدأبون فى السعى إلا فى زمنى : فالمدارس مفتحة أبوابها، والدواوين منتظمة
أعمالها، لا خمول يثبط الهِمم، ولا عرق ينضح من الجبين، يطيقون الألعاب الرياضية
ويتبارَوْنَ فيها : فتقوى أجسامهم، وتصحّ أبدانهم، يتشهَّوْنَ الطعام ويهضمونه،
ويأكلون دسم الغذاء ويسيغونه. وكيف تمنُّ بفواكهك اليانعة، وأنا كنز الثمرات،
ومدَّخر الخيرات : فىّ تلد البهائم، ويغزر اللبن والزبد، ويكثر البرتقال والقصب.
ولقد أصبحت موسم السياح، يقصدون إلى مصر : فيرجون تجارتها، وينمون ثروتها،
ويعترفون بمكانتها، ويُشيدون بذكرها. وفىّ ينتظم شمل المسارح والملاهى، التى تهذب
النفوس، وتغذى العقول، وتزيل الهم والألم. فما كان لك ( يا صيف ) – وأنا فى النهار
جد ونشاط، وفى الليل سرور وتكذيب – أن تركب الغرر فى مفاخرتى، وتتورط فى مساماتى،
فتقف الناس على حقيقة أمرك، ويرد كيدك إلى نحرك